دور المسيحيين في المئوية الثانية للبنان الكبير

لقد لعب المسيحيون دورًا متقدمًا، ومنذ القرن التاسع عشر، وبفضل مساعدة الفرنسيين، في بلورة فكرة لبنان الكبير المستقل عما جاوره من ولايات عثمانية. وتطورت هذه الفكرة اكثر فأكثر خلال فترة الحرب العالمية الأولى وذلك بسبب ما عاناه اللبنانيون، وبخاصةً المسيحيين منهم، من سياسة التجويع الممنهجة التي اعتمدتها السلطات العثمانية ما بين ١٩١٥ و١٩١٨. وبالرغم من التردد الفرنسي الذي ظهر خلال مؤتمر الصلح في فرساي عام ١٩١٩ وبعده بقليل، عادت فرنسا وقبلت، وبسبب ظروف إقليمية ودولية متعلقة بمصالحها، بفكرة لبنان الكبير. وفي الأول من أيلول عام ١٩٢٠ اعلن الجنرال الفرنسي هنري غورو دولة لبنان الكبير مستندًا في إعلانه هذا، وبالإضافة الى مطالب معظم اللبنانيين وبخاصة المسيحيين منهم، على حدود جبل لبنان الجغرافية التي تضم وبالإضافة الى السلسلة الغربية، البقاع والسلسلة الشرقية، كما وعلى الحدود التاريخية للبنان والمستندة بصورة أساسية على الاكتشافات الاثرية المتعلقة بالحضارة الفينيقية كما وعلى حدود الامارتين المعنية (١٥١٦-١٦٣٥) والشهابية (١٦٩٧-١٨٤٠). وقد حددت فرقة الطوبوغرافيين في الجيش الفرنسي حدود لبنان التاريخية هذه من خلال الخريطة التي وضعتها للبنان عام ١٨٦١. أما اليوم، وامام التراجع والانحسار الديموغرافي للمسيحيين في لبنان، يُطرح السؤال التالي: هل ما زال هناك من دور للمسيحيين في لبنان، واذا كان هناك من دور، ما هو طبيعة هذا الدور؟

بالرغم من غياب إحصاءات رسمية حول التعداد السكاني في لبنان كما وحول الإنتماءات الطائفية والمذهبية للبنانيين، إلا ان التراجع الديموغرافي يظهر جليًا على الأرض كما ومن خلال ارقام الناخبين المسجلين في الانتخابات النيابية. واذا اخذنا بيروت الإدارية على سبيل المثال، فهناك، ووفق اراقم الناخبين في عام ٢٠١٨، حوالي ٣٥٠ الف ناخب مسلم (سني وشيعي ودرزي) والذين يتمثّلون في تسعة نواب، في المقابل هناك حوالي ١٥٠ الف ناخب مسيحي والذين يتمثّلون في عشرة نواب. والتراجع الديموغرافي للمسيحيين هو في استمرار مضطرد، فمعدل نمو عدد الناخبين المسلمين في السنة هو حوالي ١٤ الف ناخب، في حين ان معدل نمو عدد الناخبين المسيحيين في السنة لا يتجاوز ١٩٨٠ ناخبًا. ويعود هذا التراجع بصورة أساسية الى ما شهدته حرب ١٩٧٥-١٩٩٠، وخاصة خلال السنتين الأخيرتين من تلك الحرب واللتان كانتا اكثر فتكًا بالمسيحيين، كما والى مرسوم التجنيس الصادر خلال فترة الاحتلال السوري عام ١٩٩٤، كما والى تزايد اعداد المهاجرين بشكل كبير، وخاصة من ذوي الكفاءات العالية منذ حرب تموز ٢٠٠٦، وكما ومنذ الشغور الرئاسي عام ٢٠١٤ وما رافقه من غياب للاستقرار السياسي الى يومنا هذا.

تزامنت هذه التطورات الاجتماعية، ونظرًا للنمو الديموغرافي الكبير الحاصل عند السنة والشيعة، مع مطالبات سياسية بضرورة تعديل صيغة النظام السياسي اللبناني، بهدف الغاء المناصفة بين المسيحيين والمسلمين والاتجاه بالنظام السياسي اللبناني نحو المثالثة. وكان اول من تحدث عن هذا الموضوع دولة الرئيس نبيه بري، وذلك عام ١٩٨٣ عندما طالب بالانتقال الى الديمقراطية الأكثرية، كذلك وخلال مفاوضات الاتفاق الثلاثي وذلك عندما اعلن عن خيارين على المسيحيين القبول بأحدهما: الغاء نظام النسبة او اجراء تعداد سكاني لوضع نظام نسبة جديد. لم يكن حزب الله بعيدًا عن هذه المطالب، وقد اعلن عن ذلك صراحةً في ورقته السياسية الأولى الصادرة عام ١٩٨٥، والتي تضمنت ما يلي: "فإننا ندعو الى اعتماد النظام الإسلامي على قاعدة الاختيار الحر والمباشر من قبل الناس، لا على قاعدة الفرض بالقوة كما يُخيّل للبعض". إلا ان حزب الله نجح في إخفاء هذا الهدف لأسباب تكتيكية، وهذا يظهر بوضوح وفي وثيقته السياسية الصادرة عام ٢٠٠٩، إذ لم يأت على ذكر مشروع الدولة الإسلامية، وانما تحدث عن ضرورة الغاء الطائفية السياسية بهدف تحقيق ديمقراطية صحيحة، التي على ضوئها، ووفق تلك الوثيقة، ان تحكم الأكثرية المنتخَبة وتعارض الأقلية المنتخَبة. إلا ان هذه الورقة تُخفي نوايا حزب الله في استبدال المناصفة بالمثالثة في كافة مناصب الدولة. وتجدر الإشارة الى ان اول طرح لفكرة المثالثة، وان بطريقة شبه رسمية، كانت خلال مؤتمر حوار دعت اليه فرنسا في تموز من العام ٢٠٠٧ في مدينة سان كلو الفرنسية، حيث طُرحت فكرة المثالثة مقابل التخلي عن سلاح حزب الله، وفيما اتهم حزب الله فرنسا بطرح هذا الاقتراح، نفت فرنسا ذلك جملة وتفصيلاً.

امام هذه المعطيات والوقائع لا بدّ من قيام النخب السياسية والثقافية المسيحية من بلورة صيغة جديدة يتحدد فيها دور المسيحيين في المئوية الثانية للبنان الكبير. ويجب ان تتم بلورة تلك الصيغة من خلال الاخذ بعين الاعتبار ببعض الوقائع الجيوسياسية المتعلقة بمنطقة الساحل الشرقي للمتوسط. فانطلاقًا من كون هذه الاخيرة هي منطقة غير مستقرة نسبيًا نظرًا لموقعها الجغرافي كطريق عبور للبضائع والمواد والأفكار، وكمنطقة حدودية بين الحضارتين الشرقية والغربية، وانطلاقًا من طبيعة المجتمع المسيحي وما يتمتع به من عناصر قوة في المجالين الاجتماعي والثقافي، يستطيع المسيحيون تحديد دورهم في عاملين اثنين: عامل التعددية وعامل محاربة التطرف او ما يُعرف في الغرب la déradicalisation. فأمام تراجع الالتزام الديني في الغرب، على المسيحيين في لبنان ربط وجودهم في لبنان، كما في الشرق، بعامل التعددية، نظرًا للأهمية الكبيرة التي يوليها الغرب للتعددية والتي يعتبرها مصدر غنى فكري وثقافي للإنسانية جمعاء. اما في ما يتعلق بالعامل الثاني أي محاربة التطرف la déradicalisation، يستطيع المسيحيون، ونظرًا لما يتمتعون به من دور متقدم في المؤسسات التربوية والثقافية من العمل، وبالتعاون مع الغرب، على محاربة التطرف، الذي يُشكّل خطرًا على الحضارة الإنسانية، بهدف اجتثاثه من بعض المجتمعات، وذلك من خلال تطوير المناهج المدرسية والجامعية وتنظيم النشاطات الثقافية، وزيادة الاهتمام بالمواقع التراثية والتاريخية والاثرية. ويمكن ان تُشكّل التعددية كما محاربة التطرف نقطة التقاء بين مصالح المسيحيين في الشرق ومصالح الدول الغربية الكبرى، ويتلاقى ذلك ايضًا مع مصالح دول الخليج العربية التي تجهد ومنذ أيلول ٢٠٠١ في محاربة التطرف وفي اظهار صورة مشرقة عن الحضارة العربية والإسلامية التي تتضمن في الكثير من اوجهها صور عن التعددية الدينية والفكرية والثقافية.

تحديد دور المسيحيين في التعددية ومحاربة التطرف لا يمكن تحقيقه من دون عودة المسيحيين في لبنان الى تاريخهم، لأن الشعوب التي تواجه أزمات وجودية تعود الى تاريخها لاستنباط الحلول ولبثّ روح الامل بغد افضل لجيلها الصاعد، وهذا ما على المسيحيين العمل عليه. فكما كان المسيحيون خلال القرن التاسع عشر رواد النهضة العربية وحاملي شعارات التحرر والديمقراطية والحرية من الغرب بوجه سياسة التتريك العثمانية، عليهم اليوم ان يكونوا رواد التعددية ومحاربة التطرف، ليعودوا حلقة وصل محورية بين الحضارتين الغربية والشرقية. أما تغييّب انفسهم عن لعب هذا الدور سيساهم اكثر فأكثر في انحسارهم ديموغرافيًا وفي تراجع دورهم على الصعد كافة.