سجال الدولار الجمركي: ضربة لليرة ولواردات الخزينة

تتقاطع المؤشّرات الاقتصاديّة التي تدل بوضوح إلى أنّ الأشهر الثمانية الماضية شهدت تسارعاً غير مسبوق في وتيرة الاستيراد من الخارج، في دلالة واضحة على تسابق التجّار على تخزين السلع المستوردة، قبل إقرار الدولار الجمركي، وتضاعف سعر الصرف المعتمد لاحتساب الرسم الجمركي. وفي ذلك، يحاول المستوردون استغلال تأخّر هذا القرار، لتحصيل أرباح فاحشة عبر استيراد السلع قبل ارتفاع الرسوم، ومن ثم بيعها بعد إقرار الدولار الجمركي وارتفاع الأسعار بنسب عالية.

وهكذا، بسبب استطالة مرحلة تقاذف المسؤوليّات حول مسألة الدولار الجمركي، وفي ظل المقاربة العشوائيّة والارتجاليّة التي تم اعتمادها في هذا الملف، وبعد ترك المسألة عالقة لأشهر عبر المماطلة غير المبرّرة، صبّت كل التطوّرات في خدمة مجموعة من التجّار التي تمكنت من استثمار الوضع الراهن لصالحها.

 

أرباح التجّار على حساب الخزينة وقيمة الليرة

النتيجة الأولى، ستكون كميّة الأرباح التي سيحصّلها هؤلاء التجّار، في ظل الأخذ والرد العبثيين بين المؤسسات الدستوريّة، بما لا يندرج ضمن أي نقاش اقتصادي أو علمي حول رؤية الدولة الماليّة. لكن النتيجة الثانية لهذه العمليّة، ستكون تفويت كميّة من الرسوم والضرائب التي كان من المفترض أن تحصّلها الدولة بعد إقرار الدولار الجمركي، والتي سيجنيها التجّار كأرباح صافية لهم، لكونهم استوردوا وخزّنوا السلع بكميّات هائلة قبل تمرير القرار واستيفاء الرسوم الجديدة. أمّا المستهلك، فسيدفع ثمن السلع المخزّنة حسب أسعارها الجديدة المرتفعة، بعد تعديل الرسم وطرح هذه السلع في السوق.

أمّا النتيجة الثالثة والأهم، فهي المساهمة في ضرب سعر صرف الليرة، بالنظر إلى ارتفاع واشتداد الطلب على الدولار خلال مدّة قصيرة طوال الأشهر الماضية، لتمويل عمليّات الاستيراد الضخمة هذه. وهكذا، يمكن القول أن هذه التطورات ساهمت بدفع سعر صرف الدولار للارتفاع طوال الأشهر الماضية، إلى جانب عوامل أخرى طبعًا.

 

مؤشّرات تخزين السلع قبل تمرير الدولار الجمركي

تتعدد المؤشّرات التي تدل على عمليّات استيراد مبالغ بها للسلع، استباقًا لقرار الدولار الجمركي. فحجم الاعتمادات المستنديّة التي جرى فتحها في المصارف اللبنانيّة، لغايات الاستيراد، ارتفع خلال النصف الأوّل من هذا العام بنسبة 495% مقارنةً بالفترة المماثلة من العام الماضي، ليقارب اليوم حدود ال148.3 مليون دولار أميركي. أمّا أرقام الجمارك اللبنانيّة، فتذهب بالمنحى نفسه، إذ ارتفع متوسّط الاستيراد الشهري هذه السنة ليقارب حدود 1.53 مليار دولار، لغاية شهر تمّوز الماضي، مقارنة بمتوسّط شهري قارب حدود 1.1 مليار دولار خلال أشهر السنة الماضية. وبذلك، تكون حركة الاستيراد قد ارتفعت منذ بداية هذه السنة بنسبة 40%. في المقابل، تشير أرقام مرفأ بيروت إلى أن حركة الحاويات قد ارتفعت لغاية شهر تموز الماضي بنحو 17,696 حاوية، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي.

بالتأكيد، ثمّة عوامل ساهمت في دفع حجم السلع المستوردة للارتفاع هذا العام، ومنها الحركة السياحيّة النشطة خلال أشهر هذا الصيف، مقارنة بصيف العام الماضي (الداتا المذكورة تشمل شهري حزيران وتمّوز فقط من صيف العام الحالي). لكنّ هذا العامل لا يبرّر حتمًا ارتفاع قيمة الواردات بالنسب المرتفعة المذكورة أعلاه، والتي لا يمكن تبريرها إلّا بوجود عمليّات تخزين واسعة النطاق للسلع المستوردة، استباقًا لقرار رفع الدولار الجمركي.

وتجدر الإشارة إلى أنّ ميزان المدفوعات شهد هذا العام ارتفاعًا بعجزه إلى حدود 2.58 مليار دولار لغاية شهر تمّوز الماضي، مقارنة بنحو 1.8 مليار دولار في الفترة المماثلة من العام السابق. وهو ما نتج عن مجموعة من العوامل المختلفة، ومنها ارتفاع قيمة العجز التجاري (الفارق بين الصادرات والواردات)، والذي يدخل من ضمن معادلة احتساب مؤشّر ميزان المدفوعات.

 

نتائج الضغط على الاستيراد

عند مراجعة أرقام الاستيراد منذ بداية العام 2022، والتي ارتفعت بشكل كبير بالتوازي مع سجال الدولار الجمركي، يمكن فهم أسباب بعض الضغوط النقديّة، وتحديدًا تلك التي دفعت قيمة الدولار في السوق الموازية للارتفاع من نحو 20,050 ليرة في بداية شهر شباط الماضي، إلى مستويات تلامس حدود 34,000 ليرة مقابل الدولار اليوم. مع الإشارة إلى أن الضغط على قيمة الليرة في السوق الموازية يتصل حكمًا بأسباب أخرى، كمسألة انسحاب مصرف لبنان تدريجيًّا من مهمّة دعم استيراد البنزين. لكنّ عامل ضغط الطلب على الدولار، لتمويل زيادة الاستيراد الكبيرة، لعب حتمًا دورًا كبيرًا في مفاقمة الضغط على سعر صرف الليرة في السوق الموازية، بالتقاطع مع العوامل الأخرى. وبذلك، تكون قيمة الليرة قد دفعت ثمن هذه المضاربات التجاريّة بشكل قاسٍ.

أمّا حجم خسارة الدولة، جرّاء اكتناز السلع على هذا النحو، بهدف بيعها بعد رفع الدولار الجمركي، فقد يتعذّر تقديره في هذه المرحلة بالتحديد، لكون الدولة لم تحدد بعد بشكل نهائي سعر صرف الدولار الجمركي الذي ستعتمده، وهو ما يصعّب مهمّة تقدير العائدات التي ستخسرها الدولة من تخزين السلع لبيعها بعد اتخاذ القرار. كما يصعب تقدير حجم زيادة الاستيراد بهدف التخزين، وتمييزه عن الزيادة الحاصلة نتيجة الحركة السياحيّة وتحسّن الطلب في الأسواق مقارنة بالسنة الماضية. لكنّ الأكيد حتّى اللحظة أن حجم السلع المخزّنة، والتي ظهرت آثارها في زيادة الاستيراد منذ بداية العام، سيكون كافيًا لتفويت نسبة كبيرة من العائدات التي كانت تراهن الدولة على تحصيلها بعد تعديل الدولار الجمركي، فيما سيحصّل هذه الأرباح التجّار الذين سيبيعون السلع المخزّنة بالأسعار المرتفعة الجديدة.

 

في النتيجة، يمثّل كل سبق مجرّد عيّنة من نتائج المعالجات التي يتم العمل عليها اليوم بالمفرّق، وبآليّات التجاذب والتناحر ما بين مراكز القرار، وتهرّب الجميع من تحمّل المسؤوليّة. مع الإشارة إلى أنّ البديل الأمثل كان يفترض أن يقوم على ربط الدولار الجمركي بسياسة توحيد أسعار الصرف أولًا، وبالرؤية الماليّة التي تقوم على أساسها الموازنة ثانيًا، وحسب أولويّات خطّة التعافي المالي التي تقرّها الحكومة. فلو أنّ مسألة الدولار الجمركي كانت مربوطة بكل هذه المسارات، ما كان اتخاذ هذا القرار ليمر بكل التجاذبات وتقاذف المسؤوليّات، وما كان التجّار ليتمكنوا من الاستفادة من المماطلة الحاصلة اليوم في حسم هذه المسألة.