المصدر: نداء الوطن
الكاتب: د. جوسلين البستاني
الاثنين 30 حزيران 2025 06:42:11
بعد أن أكّدت الاستطلاعات مؤخرًا أنّ الصوت الاغترابيّ لن يكون في مصلحة "الثنائي الشيعي" وحليفه، رئيس "التيار الوطني الحر"، بدا واضحًا أنّ رئيس مجلس النواب نبيه برّي لن يستجيب لمطالبة أكثر من 60 نائبًا بتعديل البند المتعلّق بانتخاب المغتربين، وتحديدًا ذلك الذي ينصّ على تخصيص 6 مقاعد لهم، وفقًا للمادة 122، والتي تُعتبَر انتهاكًا لمبدأ المساواة.
ليست هذه المرّة الأولى التي يتجاوز فيها الرئيس برّي صفته التمثيلية كرئيس للمجلس النيابيّ اللبنانيّ، ليتبنّى فقط مصالح "الثنائي الشيعي". بل يمكن القول إن هذا النهج الإقصائيّ شكّل مسارًا ثابتًا في آلية عمله منذ عقود.
ونظرًا إلى تمتّعه بصلاحيّة الدعوة إلى عقد جلسات المجلس وتحديد جدول الأعمال التشريعي، غالبًا ما استخدم هذه السلطة بشكل استنسابيّ، فلم يكن يدعو إلى انعقاد الجلسات إلّا إذا كانت الظروف السياسية ملائمة له أو لحلفائه. كما عمل على تأجيل إقرار تشريعات أساسيّة لا تنسجم مع مصالحه، كقوانين مكافحة الفساد، أو استقلالية القضاء، أو حتى الإصلاحات الاقتصادية، سواء عبر منع مناقشتها في اللجان البرلمانية، أو من خلال الامتناع عن إدراجها على جدول أعمال الجلسات إلى أجل غير مسمّى.
وفي هذا السياق، برز دور الرئيس برّي في حماية الطبقة السياسية خلال انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، بعد اندلاع الاحتجاجات الحاشدة على خلفية الفساد والانهيار الاقتصادي. إذ عمِل جاهدًا على مقاومة الإصلاحات، ورفض الدعوات إلى إجراء انتخابات مُبكرة أو تشكيل حكومة تكنوقراط. وقد اعتبره كثير من المتظاهرين، جزءًا من النخبة الحاكمة المسؤولة عن الانهيار الذي شهده لبنان. وغالبًا ما كان مقرّ إقامته هدفًا للهتافات والاحتجاجات الشعبية.
كما أنه قدّم مرارًا وتكرارًا تفسيرات مرِنة أو غامضة للدستور اللبناني لتأخير العمليات السياسية أو التأثير عليها، مثل الانتخابات الرئاسية. ولجأ إلى ما عُرف بـ "مُعضلة النصاب"، حيث كان نوّاب "حزب اللّه" وحركة "أمل" وحلفاؤهم ينسحبون بعد الدورة الأولى من جلسة الانتخاب، ما يحول دون اكتمال النصاب القانونيّ ويُعطّل الاستحقاق. فضلًا عن تمسّكه المُتكرّر بضرورة التوافق المُسبق على اسم المُرشّح الرئاسيّ.
وقد انسحب ذلك أيضًا على تشكيل الحكومات، إذ لجأ الرئيس برّي إلى قراءة فضفاضة وغامضة للمشاورات النيابية المُلزمة التي تنصّ عليها المادة 53 من الدستور. واستغلّ موقعه كرئيس لحركة "أمل" لِتأخير إجراء الاستشارات النيابية، أو لِربط مُشاركة كتلته النيابية بتحقيق مطالب سياسيّة مُحدّدة. فيما كانت هذه الكتلة تُهدّد بِحجب الثِقة عن أي حكومة لا تستجيب لمطالبها.
من جهة أخرى، لم يتردّد الرئيس برّي في استخدام حقّ النقض في مختلف مراحل صنع القرار، بهدف تعزيز موقعه التفاوضيّ. كما أصرّ على اعتماد مبدأ "الإجماع" في التعيينات، ما كان يؤدّي إلى شلل فعليّ في النظام السياسي. وفي إطار سعيه إلى ترسيخ نفوذه على المدى الطويل، حتى بعد خروجه من البرلمان، عمل رئيس المجلس على بناء شبكة زبائنية واسعة داخل قطاعات مُتعدّدة من الإدارة العامة والمواقع القضائية الحسّاسة، ما أتاح له حماية حلفائه من أي مساءلة سياسيّة أو قضائيّة، لا سيّما في ملفّات شديدة الحساسية، كتحقيقات انفجار مرفأ بيروت.
كذلك، اتُّهم الرئيس برّي بإدارة الجلسات البرلمانية بأسلوبٍ وصفه منتقدوه بـ "الاستبدادي". ومن بين أبرز الممارسات التي يُستشهد بها، تكرار إعلانه عبارتي "تمّ الاتفاق" أو "أُقرّ" قبل أن تُتاح للنواب فرصة مناقشة مشاريع القوانين، ومن دون التحقّق من اكتمال النصاب القانونيّ، لا سيّما خلال الجلسات التشريعية التي تتناول إصلاحات اقتصادية أو سياسيّة مُثيرة للجدل. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، الجلسة التشريعية التي عُقدت عقب انفجار مرفأ بيروت، والتي خُصّصت لمناقشة الإصلاحات المرتبطة بالمساعدات الدولية، خصوصًا تلك التي اقترحتها المبادرة الفرنسية.
باختصار، نحن أمام نمط سلوكيّ يرتكز على التحكّم الكامل بسير الجلسات: من ضبط وقت الكلام وتحديد من يحقّ له التدخّل، إلى تجاوز التصويت بنداء الأسماء في القوانين المفصلية، واستبداله بعبارات من قبيل: "توصّلنا إلى توافق في الآراء"، حتى في ظلّ اعتراضات واضحة. يُضاف إلى ذلك مقاطعة الخطابات، وإسكات النواب المعارضين، ومنع إعادة الفرز أو تقديم الطعون، حتى عند التّشكيك في شرعيّة الإجراءات.
إنّ استمرار نفوذ الرئيس برّي في لبنان لا يعود فقط إلى مناوراته الداخلية، بل هو أيضًا ثمرة سياسة خارجية مرِنة. فقد لعب في كثير من الأحيان دور الجسر المعتدل بين حلفاء إيران المتشدّدين والجهات الفاعلة الغربية أو العربية، فكان "الوجه الناعم" للطرف الشيعيّ، لا سيّما في الحوار مع فرنسا أو الولايات المتحدة. وبفضل قبضته على الكتلة البرلمانية الشيعية، أصبح لاعبًا لا يمكن الاستغناء عنه في النظام الطائفيّ اللبنانيّ.
بالتالي، في برلمانٍ يصبح فيه النقاش اختياريًا، والقرارات محسومة سلفًا، يُتقن رئيس المجلس بلا شكّ "فن الكفاءة الديمقراطية". فبالنهاية، من يحتاج إلى التصويت، حين يكفي ببساطة أن يُقال: "صُدِّق".