ضغط أميركي لضبط إسرائيل قبل فتح مسار التسويات وواشنطن تتشدَّد: من إدارة التوازنات إلى فرض الإطار!

يشي المسار الديبلوماسي الأميركي المستجد بأن واشنطن انتقلت من سياسة إدارة التوازنات الهشَّة في الإقليم إلى محاولة فرض إطار أشد انضباطًا، عنوانه تقليص هامش المبادرات الأحادية، وخصوصًا الإسرائيلية. 

اللقاء الذي جمع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالمبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توم برّاك لا يمكن قراءته سوى كمؤشر على إعادة ترتيب الأولويات الأميركية في لحظة إقليمية شديدة الحساسية. ويعكس حضور براك، بصفته المزدوجة كمبعوث لسوريا وسفير في أنقرة، تحوُّلًا نوعيًا في مقاربة الملفات المتشابكة، حيث لم تعد غزة أو سوريا أو لبنان تُدار كمسارات منفصلة، بل كحلقات مترابطة في معادلة أمنية واحدة.

تعكس الرسائل التي حملها براك إلى نتنياهو، والتي وُصفت بالحادة والخاصة، نفاد صبر أميركي واضح من السلوك الإسرائيلي القائم على توسيع هامش الحركة العسكرية خارج التفاهمات المسبقة. ويكتسب هذا التوتر المستتر دلالته من توقيته، إذ يأتي عشية قمة مرتقبة بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونتنياهو، مما يوحي بأن واشنطن تسعى إلى ضبط الإيقاع الإسرائيلي قبل الانتقال إلى مرحلة تفاوضية أوسع. ولا يبدو الهدف الأميركي محصورًا في منع التصعيد، بل في إعادة إنتاج قواعد اشتباك سياسية وأمنية أكثر قابلية للاستدامة.

في غزة، يتقدّم المشروع الأميركي خطوة أبعد من مجرد تثبيت وقف إطلاق النار. تتعامل الإدارة الاميركية مع المرحلة الثانية من التهدئة باعتبارها مدخلًا إلى إعادة هندسة منظومة السيطرة في القطاع، عبر إدخال قوة دولية أو إقليمية قادرة على ملء الفراغ الأمني من دون الانجرار إلى احتلال مباشر. يكشف الإصرار على إشراك تركيا، رغم التحفظات الإسرائيلية، عن رهان أميركي على قدرة أنقرة على التأثير في حركة «حماس» بحكم قنوات التواصل المفتوحة معها. لا يعكس هذا الخيار ثقة مطلقة، بقدر ما يعكس واقعية أميركية تدرك محدودية البدائل.

تكمن أهمية هذا النموذج في قابليته للتعميم. فإذا نجحت صيغة القوة الدولية في غزة، قد تتحوّل إلى مرجعية تُستنسخ في مساحات أخرى تعاني اختلالًا مشابهًا، وفي طليعتها جنوب لبنان. النقاش المتصاعد في مستقبل ما بعد اليونيفيل ليس منفصلًا عن هذا السياق، بل يندرج ضمن تفكير أوسع بإعادة تعريف أدوار القوات الدولية، وحدود التفويض، وطبيعة الشراكات الإقليمية المطلوبة لضبط الاستقرار الحدودي.

أما البُعد السوري في لقاء نتنياهو وبرّاك، فيحمل انعكاسات مباشرة على لبنان، وإن بصورة غير معلنة. إذ يقوم الربط الأميركي بين الشمال السوري والجنوب اللبناني على فرضية أن ضبط الفصائل المسلحة وخطوط الإمداد في سوريا سيؤدي تلقائيًا إلى خفض منسوب التوتر على الحدود اللبنانية. تالياً، أي تفاهم أميركي – تركي حول إدارة الشمال السوري سيؤثر في توازنات القوى غير الدولتيّة، وفي حركة السلاح والتمويل، مما يجعل لبنان مرة أخرى ساحة تتلقَّى نتائج التسويات بدل أن تكون شريكًا في صوغها.

تكمن المعضلة اللبنانية في هشاشة الموقع التفاوضي. فلبنان الغائب عن طاولات التفاهم الإقليمية مهدَّد بأن تُفرض عليه لاحقًا ترتيبات أمنية بعنوان الاستقرار، من دون أن يكون له دور فعلي في تحديد شروطها. ويعكس التشدد الأميركي حيال تصريحات نتنياهو عن نزع سلاح «حماس»، رغبة واضحة في تجنّب مغامرات عسكرية إسرائيلية جديدة، وهو منطق ينسحب على لبنان، حيث ترى واشنطن أن أي تصعيد واسع سيقوّض مسار التهدئة الشاملة التي تعمل على بلورتها.

من هنا، تبدو المرحلة المقبلة مختلفة في طبيعتها عن المراحل السابقة، ومفتوحة على انتقال من سياسة إطفاء الحرائق إلى سياسة إعادة رسم الأدوار. يضع هذا التحوُّل لبنان أمام اختبار مزدوج: إما أن يستثمر لحظة الضغط الأميركي على إسرائيل لتحسين شروطه التفاوضية، خصوصًا في ما يتعلق بالحدود الجنوبية وترتيبات الأمن، أو أن يبقى هامشًا يُعاد تشكيله وفق مصالح الآخرين. الفرصة قائمة، لكنها مشروطة بقدرة الدولة على إنتاج موقف موحَّد، يخرج من منطق رد الفعل إلى منطق المبادرة، لو بالحد الأدنى الممكن.

لا يحمل التشدد الأميركي دلالات سلبية بالضرورة بالنسبة إلى لبنان، لكنه لا يشكّل ضمانة في حدّ ذاته. فالضمان الحقيقي يكمن في قدرة اللبنانيين على قراءة التحوّلات بدقة، والتقاط لحظة إعادة التموضع الإقليمي قبل أن تتحوّل وقائع مفروضة. المرحلة ليست مرحلة انتظار، بل مرحلة قرار، ومن يتأخر عن الدخول إليها فاعلًا، سيدخلها لاحقًا متلقيًا للنتائج.