في عشق "جبهة المقاومة" للعدالة الدوليّة!

إذا كان إقدام محكمة العدل الدوليّة على عقد جلسة للنظر في جديّة الدعوى التي رفعتها جمهورية جنوب أفريقيا ضد دولة إسرائيل بتهم خرق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، قد أثار هذه الحماسة المنقطعة النظير في "جبهة المقاومة" بقيادة "الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران"، للعدالة الدوليّة، فلا يمكن تخيّل مدى التمجيد بهذه العدالة، إذا أصدرت المحكمة، في وقت لاحق، قرارًا  يقضي بقبول الشكوى والبدء بالإجراءات الآيلة إلى محاكمة إسرائيل.

ولم يبقَ مسؤول في "جبهة المقاومة" إلّا وأشاد بما أقدمت عليه المحكمة الدوليّة، مبديًا تفاؤله بأنّ الحكم سيكون ضد إسرائيل، لأنّ ما قاله الفريق القانوني الذي مثّل جنوب أفريقيا "أقنعه"، ولا بدّ من أن يقنع العدالة الدوليّة "النزيهة" و"الشريفة" و"الموضوعيّة".

"جبهة المقاومة" نفسها، قبل سنوات قليلة، لم تترك صفة سيّئة إلّا وأسبغتها على العدالة الدوليّة، متهمة إيّاها بأنّها مجرد أداة صهيونيّة وأميركيّة، وجزء أساسي في مؤامرة كونيّة تستهدف "جبهة المقاومة"!

صدرت هذه المواقف السلبية تجاه العدالة الدولية مرات ومرات: حين تمّ التلويح لرئيس النظام السوري بشّار الأسد بها، وحين أحيل إلى واحدة من محاكمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وحين جرى التحرك ضد الجرائم المرتكبة في الهجوم على أوكرانيا، وقبل هذا وذاك يوم أعطي لبنان فرصة ليصبح تحت سقف القانون.

ووصل موقف "جبهة المقاومة" السلبي من العدالة الدولية إلى أوجه في الحالة اللبنانيّة، كل ذلك لأنّ مجلس الأمن الدولي، وبهاجس وضع حد لجرائم الاغتيال في لبنان التي استهدفت، بطريقة منهجية، مجموعة قيادات عملت على تحرير لبنان من وصاية النظام السوري، تطبيقًا للقرار 1559 لدى البعض ولاتفاق الطائف لدى البعض الآخر، أنشأ "محكمة خاصة بلبنان" مؤلفة من قضاة دوليين ولبنانيّين، ومهمتها النظر في صحة الاتهامات التي توجه إلى مشتبه بتورطهم بارتكاب هذه الجرائم.

وبيّنت التحقيقات التي أخذت وقتًا طويلًا، في حينه، أنّ مجموعة أشخاص مرتبطين بـ"حزب الله" قد يكونون، وفق المتوافر من القرائن والأدلة، قد أقدموا على اغتيال الرئيس رفيق الحريري والمناضل السياسي جورج حاوي وحاولوا اغتيال الوزيرين في حينه الياس المر ومروان حمادة.

وتعاضدت "جبهة المقاومة" ضد العدالة الدوليّة، ومن أجل ذلك لم تمتلئ الدنيا خطابات معادية فحسب بل وُجهت أيضًا تهديدات ضد القضاة والمحققين والأمنيين، وحصلت اغتيالات، واستدرجت إسرائيل إلى حرب مدمّرة في عام 2006، وحصلت عملية عسكرية في أيار (مايو) 2008 توزعت بنتيجتها السلطة التنفيذية على مجموعة فيتوات نال "حزب الله" أبرزها.

وهكذا أصبحت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في مكان ولبنان في مكان آخر، ما خلق هوة شاسعة حوّلت العدالة الدولية إلى كيان عاجز عن الملاحقة والتحقيق وإجراء المحاكمات الفعّالة!

ولاحقًا أصاب المجتمع الدولي اليأس من إنتاجيّة "المحكمة الخاصة بلبنان"، فدخل الجميع في مقايضات أوقفت تمويلها، ما أدّى إلى إقفالها.

حاليًّا، ولأنّ محكمة العدل الدوليّة - ومقرّها كما كان مقر المحكمة الخاصة بلبنان، مدينة لاهاي الهولنديّة - وافقت على النظر في شكوى ضد إسرائيل لم يبق أحد من "جبهة المقاومة" سبق له أن قدح وذمّ العدالة الدوليّة وعمل ضدّها، علنًا وسرًّا،  إلّا وغيّر رأيه فيها، غير آبه هذه المرّة، بأنّ رئيستها ليست مشبوهة بالأمركة كما كانت عليه حال محاولات ربط "محكمة لبنان" بـ"المؤامرة الكونية" بل هي أميركيّة بوضوح ما بعده وضوح.

ونحن فيما نلاحظ كل هذا، لا نغيّر رأينا الإيجابي بالعدالة الدوليّة، بغض النظر عن أجهزتها وعن الملفات المعروضة أمامها، بل نثابر على الاعتقاد بأنّها جزء من مروحة واسعة لإعادة ضبط القوة تحت سقف القانون.

إنّنا نهدف من وراء تسجيل ملاحظاتنا هذه، إلى تسليط الضوء على هذه الانتقائية الخطرة في النظر إلى العدالة الدولية، بحيث تتشيطن هذه العدالة حين لا تلائمنا الملفات المعروضة أمامها وتتقدس حين يحصل العكس.

إنّ ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزة يستحق أن يوضع  على ميزان العدالة الدوليّة لأنّه خطر للغاية، ولكنّ هجمة الاغتيالات التي تعرض لها لبنانيّون قاموا بـ"ثورة بيضاء" لا يقل خطورة، لأنّه، في الحالتين، هناك جهة تستخدم فائض القوة لديها لتديم هيمنتها على من تعتبره الأضعف.

إنّ موقف "جبهة المقاومة" من العدالة الدولية، وقد انتقل من أسود  في الحالة اللبنانية إلى أبيض في الحالة الإسرائيليّة، لا يعني أنّ العدالة الدوليّة أخطأت هناك وأصابت هنا، بل يعني أنّ هذه الجبهة هي التي تنظر إلى مفهوم العدالة كما لو كان أداة في تحقيق انتصارها على جميع من تصنّفهم، عن حق هنا وعن باطل هناك، في خانة الأعداء.

والعدالة، سواء كانت وطنية أو دولية، ليست لنصرة فريق محارب على آخر، بل لنصرة الضحية على الجلّاد!