المصدر: المدن
الكاتب: ندى اندراوس
الاثنين 28 تموز 2025 15:02:01
في لحظة لبنانية دقيقة وحسّاسة، يتقاطع فيها الضغط الإسرائيلي مع الانسداد الدبلوماسي، بدت مباحثات الموفد الأميركي توم باراك في نسختها الثالثة مع المسؤولين اللبنانيين، كمرآة تعكس الفجوة العميقة بين مناخات التشاؤم التي عكستها مواقفه التي أعلنها من بعبدا بعد لقائه رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، وبين الانطباعات الإيجابية الجزئية التي خرج بها من عين التينة بعد اجتماعه المطول مع رئيس مجلس النواب نبيه بري.
اللاضمانات والتشاؤم العميق
في تفاصيل أكثر تكشفت عن اجتماع عون باراك، أفادت أوساط مطلعة لـ"المدن"، أن اللقاء بين العماد عون والموفد باراك كان محطة صريحة من حيث الطرح والردود، لكنه حمل نبرة تشاؤمية. إذ كرر باراك موقفًا سبق أن نقله في لقاءات سابقة، مفاده أن الولايات المتحدة غير قادرة على تقديم أي ضمانات للبنان، لأنّها ببساطة "لا تستطيع أن تضمن إسرائيل"، كما أن إسرائيل، من جهتها، غير مستعدة لتقديم أي إلتزام مكتوب أو غير مكتوب، لا بوقف الأعمال العدائية، ولا بأي إطار تفاوضي مسبق لتسليم سلاح حزب الله.
هذا الموقف الأميركي لم يفاجئ رئيس الجمهورية، لكنه شكّل تأكيدًا إضافيًا له بأنّ الجانب الإسرائيلي لا يزال يتمسّك بموقع القوة، ويراهن على الوقت والضغط والتصعيد لفرض الشروط، لا على التفاوض المتوازن. ولعلّ النقطة الأكثر حساسية في اللقاء كانت حين قال الرئيس عون للمبعوث الأميركي بوضوح: "من غير الممكن أن يستمر لبنان في التفاوض أو في تشجيع حزب الله على أي خطوة، فيما العدوان الإسرائيلي مستمر على الأرض، والقرى تُدمّر، والاغتيالات تُنفّذ. فإذا كان اتفاق 27 تشرين الثاني 2024 قد تمّ خرقه وضربه بعرض الحائط من قبل إسرائيل، فمن يضمن أن أي اتفاق جديد سيلتزم به الإسرائيليون؟"
الرئيس عون، الذي لا يزال يكثف اتصالاته بشكل يومي، خارجياً وداخلياً، وخصوصًا مع حزب الله، عبر رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، بموازاة حركة موفدين بين بعبدا وحارة حريك، يركّز في هذه المرحلة على محاولة انتزاع موقف من الحزب يؤكّد التزامه العلني بالقرار 1701 بكامل مندرجاته، بما فيها مبدأ حصرية السلاح بيد الدولة. وهو يعرف أن هذا المسار محفوف بالصعوبات، لكنه يعتبر أن أي خطوة نحو هذا الاتجاه لا يمكن أن تنجح من دون التزام إسرائيلي واضح وصريح بوقف الأعمال العدائية. وحتى الآن، لا إشارات جدّية بهذا المعنى.
اختبار الهدنة والتفاؤل النسبي
في المقابل، تروي أوساط مطلعة على مباحثات عين التينة لـ"المدن" أن اللقاء بين الموفد الاميركي باراك والرئيس نبيه بري، الذي أعلن الأول أنه حمل مناخًا مختلفًا، يحمل في طياته تفاصيل أكثر تمت مناقشتها.
فوفق المعلومات، فاجأ الرئيس بري الموفد الأميركي بـ"اقتراح عملي عن هدنة اختبارية شبيهة بما كان يحصل في غزة، تمتد بين 15 يومًا وشهر، تتوقف خلالها الأعمال العدائية بالكامل من الجانب الإسرائيلي، على أن يتم تقييم المرحلة في ضوء هذه الهدنة". في حال نجحت، يمكن الانتقال إلى بحث ملف سحب سلاح حزب الله.
باراك لم يقدّم جوابًا واضحًا، لكنه وعد بنقل الاقتراح إلى الإسرائيليين بعد جولته إلى فرنسا، وربما من بعدها إلى تل أبيب إذا اقتضى الأمر، أو عبر جولة جديدة من الاتصالات. وعلى الرغم من عدم حسمه للموقف، بدا أن باراك تعامل مع الطرح بريبة أقل، ما ترك انطباعًا بإمكانية البناء على هذا الاقتراح، كمقاربة تدريجية بديلة للطرح المصر على نزع فوري وكامل للسلاح قبل البحث بأي شيء آخر. بموازاة اقتراح "الهدنة الاختبارية"، كان هناك كلام أن المهلة التي كانت إسرائيل تصر عليها لبدء عملية سحب السلاح بداية آب المقبل، يمكن أن تمدد إلى نهاية آب، كما أن هناك مسعى لتمديدها إلى أواخر أيلول. لكن الأوساط المطلعة كشفت أنه "حتى الآن، لم يأت أي جواب إسرائيلي مفيد عن هذا الموضوع. لا بل أن الموقف الإسرائيلي لا يزال على حاله، أي أن إسرائيل غير مستعدة لتقديم ضمانات ولا أي تنازلات، خصوصاً وأن إسرائيل تدرك أنها في موقع القوة." بغض النظر، ينتظر لبنان أن يسمع من باراك الجواب الاسرائيلي "الرسمي"، بناء على الاتصالات التي سيجريها في ما خص اقتراح الهدنة الاختبارية والاقتراح المكمل لها بتمديد مهلة بداية سحب السلاح.
هوّة بين الأقوال والأفعال
في الوقت الذي تكثر فيه الاقتراحات الاميركية، كما تقول أوساط مطلعة على موقف بعبدا، فإن الواقع الميداني يشي بعكس ما يُطرح في الصالونات الدبلوماسية. هذه الاقتراحات أو الأفكار لا يمكن أن يحصل أي بحث جدي فيها قبل أن يبدأ الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب، وقبل أن يحصل التزام شديد الوضوح والتطبيق بوقف الأعمال العدائية. فالاغتيالات والغارات والاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب والبقاع لم تتوقف، والضغط بالنار على لبنان مستمر رغم كل الاتصالات التي يجريها توم باراك.
"واقع يكرّس قناعة لبنانية بأن الجانب الأميركي من خلال لجنة الرقابة يتعاطى ببطء في تنفيذ الآلية، أكان عن قصد أو عن غير قصد. حتى أن اللجنة لا تجتمع لمجرد أن تراقب وتعد تقريراً. فالآلية التي ترأسها الولايات المتحدة وتشارك فيها فرنسا تكاد تكون مشلولة، رغم تغييرات حصلت على مستوى الجنرالين الأميركي والفرنسي المكلّفين من البلدين."
فكل الحديث الذي يسوّقه باراك عن لبنان والفرص المتاحة أمامه ومستقبله ومكانته بالنسبة إليه كمواطن أميركي من أصل لبناني، "يبقى في إطار الكلام الذي لا يمكن الركون إليه"، لأن السؤال المركزي الذي لم يقدّم باراك جواباً حاسماً عليه: "هل الولايات المتحدة قادرة أن تضغط على إسرائيل لإلزامها بوقف الأعمال العدائية، ووقف الاغتيالات وتدمير القرى. هل الولايات المتحدة مستعدة لذلك؟ نعم أم لا؟". في المعلومات، أن الجواب على هذا السؤال لم يصل حتى مساء الجمعة.
لكل هذه الأسباب مجتمعة، تعتبر الأوساط الرسمية أن أي نقاش جدّي في أي شروط مطلوب من لبنان تنفيذها، يفترض أن يسبقه التزام قاطع من إسرائيل بوقف النار.
ففي معلومات إضافية لـ"المدن" عما قاله الرئيس عون لبراك من ضمن أشياء أخرى عديدة: "إن استمرار الأعمال العدائية لا يشجع لا الدولة اللبنانية ولا حتى حزب الله أن يستمرا من دون أن يحصلا على التزام بوقف النار. من غير الطبيعي أن البلد يتعرض للاعتداءات الإسرائيلية وللقصف بشكل يومي، رغم وجود اتفاق لا تحترمه إسرائيل. من يضمن التزام إسرائيل بأي اتفاق جديد إذا حصل، ما دامت لم تلتزم بالاتفاق الحالي؟"
اقتراح الوقت الضائع
في ظل هذا التباين، نُوقش أقتراح إضافي مع باراك يقضي بأن يصدر موقف مشترك عن عدد من النواب يمثّلون معظم الأطراف، بالإضافة إلى بيان من حزب الله، يعلنون فيه الالتزام بالقرار 1701، وحصرية السلاح بيد الدولة. لكنّ الموقف من هذا الطرح لا يزال غامضًا: فباراك لم يعلّق عليه رسميًا، والحزب لم يعطِ جوابًا بالقبول أو الرفض حتى الان.
تزامناً، دخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على خط الوساطة، وأبلغ رئيس الحكومة نواف سلام خلال زيارته باريس استعداده للتواصل مع إسرائيل. لكنّ بيروت تخشى أن يُقابل هذا المسعى بممانعة إسرائيلية متزايدة، لا سيما بعد الموقف الرئاسي الفرنسي بالتوجه للاعتراف بدولة فلسطين في أيلول المقبل، في خلال الجمعية العمومية للأمم المتحدة، الذي أثار ردود فعل غاضبة من تل أبيب ومن الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
أمام هذا المشهد المعقّد، لا تملك الدولة اللبنانية حاليًا سوى الانتظار: انتظار ردّ باراك على اقتراح الرئيس بري، وانتظار الموقف الإسرائيلي من هدنة الاختبار، وما إذا كانت المهلة الزمنية لبدء سحب السلاح ستُمدّد فعلًا. لكنّ الحقيقة الثابتة، بحسب مصادر مطّلعة، أن لا شيء سيتقدّم فعليًا على الأرض إذا لم توافق إسرائيل على وقف الأعمال العدائية وتلتزم بذلك. فكل الطروحات الأخرى، من التزام حزب الله بالقرار 1701، إلى بدء التفاوض على سحب السلاح، ستكون من دون جدوى، لأنّ الأمن لا يُبنى على الكلام بل على الضمانات، وهذه الضمانات، حتى الآن، غائبة تمامًا. إزاء هذا الواقع، لا تخفي أي من الاوساط اللبنانية المعنية قلقها على الآتي من الايام. إذ أن ما نقل إلى المسؤوليين اللبنانيين من رسائل، يدل على أن إشارات القلق أكثر من إشارات الأمل. ولكن على الرغم من ذلك سيواصل رئيس الجمهورية اتصالاته ومساعيه في كل الاتجاهات، لتجنيب البلد الأخطر مما تهول به إسرائيل. ولكن إلى ما ستؤدي الاتصالات الرئاسية وماذا يمكن أن تحقق؟ لا أحد يملك الجواب، خصوصاً وأن كل شيء يتوقف على جواب إسرائيل.