قلق يساور حزب الله

هل على حزب الله ان يساوره القلق؟ ومرد القلق هذا تطورات بنيوية عميقة، جعلته بعد اربعين سنة من ولادته، لا يشبه الرموز الوراثية التي طبعت نشأته!!  فدوره في مقاومة اسرائيل يخبو ويتقلص، ليصبح موسميا، ثم تذكيريا، ثم افتراضيا، وهو أمر طبيعي وواقعي فرضته المستجدات على ارض الصراع بعد تحرير الجنوب اللبناني سنة ٢٠٠٠، واصبحت قضية مزارع شبعا ملف خلاف حدودي، يمكن حله بواسطة تبادل خرائط ووثائق مع الجانب السوري والامم المتحدة…

 

وقد تأكد هذا الامر بعد صدور القرار ١٧٠١ بعد حرب تموز سنة ٢٠٠٦، ليعلن نهاية العمليات العسكرية في جنوب الليطاني، ولتنحصر وظيفة حزب الله وسلاحه بتهديدات اعلامية، تبغي اجتراح دور للسلاح وتفترض قدرة على ردع اسرائيل او اقلاقها.  لكن الخسارة الأساسية لحزب الله ليس بتراجع دوره العسكري، وندرة اشتباكه مع العدو، على اهمية ذلك وفداحته، ولا في اسقاط شعارات بداياته التي كان يهتف بها مناصروه ؛ ” زحفا، زحفا نحو القدس”  او “يا أقصى انَّا قادمون”، بل في تبدل صورته السياسية في عيون الجمهور اللبناني والعربي، وتحوله تدريجا منذ سنة ٢٠٠٧ بعد احداث ٧ ايار الشهيرة، من سلاح مشهر في وجه اسرائيل الى سلاح يستعمل في الداخل اللبناني، من أجل زيادة نفوذه في الصراع على السلطة ومفاتيحها وصولا الى جني عوائدها ومغانمها. القفزة النوعية في توهين صورة حزب الله، كانت اشتراكه بالحرب السورية، التي نقلته من موقع الاشتباك مع اسرائيل عدو العرب والمسلمين، الى موقع الاشتباك مع شعب سوريا دعما لنظام الاسد  واجهزته الاستبدادية، السقطة السورية كانت مريرة ومكلفة سياسيا لأمرين؛ الأول ان حزب الله ينخرط في صراع دعما للأقلية العلوية في السلطة، في مواجهة الاكثرية السنية الثائرة على النظام، وهو انخراط في احتراب اهلي طائفي ومذهبي، لا يندرج في اجندة المقاومات المسلحة ضد عدو اجنبي محتل، وهو محظور استدرجت اليه منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، ودفعت ثمنه خسارة سياسية صافية، الأمر الآخر ان الطرف الذي اراد حزب الله الانحياز اليه، كان حكما وراثيا مستبدا، اعتقل سوريا وشعبها على مدى اربعين عاما، وغرس خناجره في خواصر شعب لبنان وفلسطين وطبعا سورية، على مدى سنوات حكمه جميعا. ولم تنفع قصة داعش ومواجهتها، كما الدفاع عن المراقد المقدسة او حماية جسر امداد المقاومة، في تبرير الخطيئتين او تخفيف مخاطرها واستساغة ارتكابها. خاصة وان الحزب ما زال ينوء بحجم الخسائر التي تحملها مقاتلين وكوادر قيادية في الحرب السورية.

 

القفزة الثالثة نحو الوراء، هي حرب اليمن وما رافقها من قصف للمدن السعودية، ولشركة ارامكوا ولمدينة مكة قبلة المسلمين ومركز الكعبة المشرفة، وهي قفزة في مجهول وضع لبنان وشعبه في موقف حرج ومدان، بحيث تحول بلد الارز الى قاعدة للعدوان على العرب ليس على السعودية فقط، بل في الكويت والبحرين والامارات العربية  بعد قصف دبي، ولم تكن الاعلانات المتكررة عن ضبط كميات هائلة من المتفجرات أو المخدرات والكابتاغون في السعودية والكويت والاردن واليونان وايطاليا وافريقيا ومصر، ومصدر هذه المخدرات سورية ولبنان، الا اشارة صارخة تتهم حزب الله في ممارسة الجريمة المنظمة والسعي لزعزعة الاستقرار في المجتمعات العربية المستهدفة. على مدى ستة عشر سنة مضت منذ حرب تموز ٢٠٠٦ و لتاريخه، لم يمارس حزب الله اشتباكا كبيرا وحقيقيا مع اسرائيل، بل كان في حالة اشتباك مع الداخل العربي، ينخرط في الفتن الداخلية و الإحتراب الاهلي، كان ذلك يشكل مصلحة للولي الفقيه، من اجل توسيع نفوذ ايران ومد سطوتها على دول المشرق العربي، ولتحسين اوراقها التفاوضية مع الغرب واميركا.

في المرحلة المنقضية تلك،  كان التوازن الدولي بين اميركا وروسيا والصين يصنع الاستقرار ويحاول ادامة مفاعيله، ويتجنب المواجهات العنيفة والحروب الكبيرة، كانت اوروبا مجالا رحبا لتأسيس عالم دون حروب، والاكتفاء بتنافس اقتصادي حر ومفتوح، كانت ايران تمارس تصعيدها وحروبها الصغيرة، مستندة الى حقيقة ان العالم المتقدم يمكن ان يدفع ثمن الاستقرار، مكاسب تسجل لإيران ونظامها، وان يغض النظر عن بعض من تمدد نفوذها، وكان حزب الله هو رأس الحربة في عمليات ايران الخارجية وأجندتها الإقليمية. مع الحرب الاوكرانية تبدل الوضع الدولي الذي نعيش، وظهر ميل أميركي مستولد لتطبيق استراتيجية “الإطباق الشامل” على خصوم اميركا ؛ روسيا والصين تحديدا، ودفعت الحرب الروسية الاوكرانية اوروبا مجتمعة الى الانخراط الفعال في المواجهة والحرب ضد روسيا، فيما ظهرت الصين حائرة مترددة ازاء الاندفاعة الاميركية لتفجير الازمة مع تايوان، ولدفع كوريا الجنوبية واستراليا واليابان الى صفوف المواجهة مع الصين والتضامن مع فرموزا، التصعيد الاميركي الجديد يجعل العالم ساحة مواجهة، عالية التوتر، ويزج بدول عدة في اوروبا والشرق الاقصى، في اتون مواجهات كانت مستبعدة ومنسية لعشرات السنين الماضية، وعلى ضوء هذه المتغيرات الهامة يصبح السؤال مشروعا ؛ هل المواجهات ستمتد الى منطقة الشرق الاوسط بحيث نشهد مواجهة شاملة مع ايران، تخوضها اميركا دافعة مجموعة الدول المتحالفة معها، ابتداءً بالدول العربية وصولا الى اسرائيل؟. وبكلام آخر اذا كانت اميركا تقود المواجهة مع روسيا في حرب اوكرانيا، بدعم اوروبي وتخوض المواجهة مع الصين، لحماية تايوان، بدعم اليابان واستراليا وكوريا الجنوبية، فما المانع من ان تخوض مواجهة ايران بدعم من اسرائيل والدول العربية وتركيا؟! الاحتمال ليس مرجحا في قريب عاجل، لكنه لم يعد يصح استبعاده بالمطلق!. واول دلالات التغيير في منطقة الشرق الاوسط تكيفا مع السياسة الاميركية الجديدة، هو اعادة ترتيب الاصطفافات الاقليمية التي تجري بين دول المنطقة كل دول المنطقة. 

فهذه ايران تسقط خطوطها الحمراء التي كانت تطالب بها، والتي تقضي برفع الحرس الثوري الايراني عن لائحة العقوبات الاميركية،سعيا لتسهيل استعادة الاتفاق النووي مع دول الغرب، و ها هي الهدنة اليمنية تصمد اشهرا عدة، لتحصر الازمة اليمنية بصراع على السلطة بين فئات يمنية مختلفة، ولتتوقف عمليا عمليات قصف السعودية التي كانت تجري بخبرات حزب الله ومشاركته، وتتوقف بالمقابل غارات طائرات التحالف على مدن اليمن وجبهاته، وعند هذا الحد يظهر ان مهمة حزب الله في اليمن هي في طور النهاية والختام . من جهة أخرى ها هي ايران تواجه موقفا حرجا في العراق، حيث يواجهها تيار الصدر متحالفا مع كتل نيابية سنية وكردية، ويطالبها برفع يدها ونفوذها عن العراق، ويخشى المراقبون للوضع العراقي ان ينفلت الصراع على حرب شيعية شيعية، يكون عنوانها تحرير العراق من قبضة ايران، ويعلم حزب الله ان دخول صراع كهذا في العراق سيكون ضرره فادحا وخسارة صافية… المرجح أن المهمة انتهت في اليمن وانتهت أيضا في العراق ماذا عن سوريا؟!  اوضح محاولات التكيف واوسعها مدى، مع الوضع الدولي الجديد هى اعادة النظر التركية في موقع تركيا وشبكة علاقاتها وتحالفاتها، فقد بنت تركيا استراتيجيتها ووظيفتها الاقتصادية لتكون عقدة تمر بها وتتلاقى كل خطوط امداد الطاقة والغاز، سواء كان ذلك من تركمانستان او اذربيجان او روسيا او ايران او العراق وقطر، وقد حصلت الحرب الاوكرانية الروسية، وادت الى وقف امداد روسيا لاوروبا بالغاز والطاقة، كما أدى قيام كونسرتيوم شرق المتوسط للغاز بين مصر وقبرص واسرائيل، الى حرمان تركيا من هدف سعت طويلا لان تناله، وهو السيطرة على خطوط امداد الطاقة الى اوروبا.

لذلك تعيد تركيا تموضعها في كافة الازمات العالمية، دور ناشط في اذربيجان في مواجهة ارمينيا، علاقة مميزة مع اوكرانيا مع حرص كبير للعب دور وسيط وبناء مع روسيا، وضمان حل ازمة تصدير الغذاء الى العالم من روسيا واوكرانيا، انفتاح على ايران وسوريا في لقاءات سوتشي لمعالجة الازمة السورية، مع سعي دائم لضرب الانفصاليين الاكراد في العراق وسورية، وتحسين العلاقات بحلف الناتو والالتزام بموجباته، تطبيع للعلاقات مع اسرائيل واستعادة فتح السفارات، وتفادي انجرار حركة حماس الى تصعيد عسكري نصرة للجهاد الاسلامية،اضافة للانفتاح على نظام الاسد ومطالبته باستقبال النازحين السوريين، وبسحب المقاتلين الايرانيين والميليشيات الشيعية من شمال سوريا، وهو امر سيعيد خلط الاوراق والاحجام، في ظل انحسار الدور الروسي في سورية على وقع الحرب الممتدة الاوكرانية… المنطقة على باب مفترق حاد، ومهمات حزب الله في الاقليم قد تكون في طور النهاية اذا اتجهت الامور للتهدئة، او للحرب الشاملة، فقد انتهى شهر العسل الاميركي الايراني، والدور الذي وصل الى خواتيمه، لا يجدده زعم بتكليف إلهي،  ولا بطاعة لصاحب الجلالة.