لبنان... من تصدير الأدمغة إلى بيع الأعضاء

«باللحم الحيّ» كانوا يعيشون، والآن صاروا يعتاشون «من اللحم الحي»؟ سؤال مُفْجِعٌ ومؤلم... إنه السؤال الكابوس في بلد بات الحلم بحجم لقمةٍ أصبحت مغمّسة بدم لبنانيين لم يَعُد أمامهم إلا بيع أعضائهم لسدّ جوعٍ وصدّ بؤسٍ زحف مع الانهيار الشامل... إنه السؤال المخيف عن واقعٍ حَكَم على مواطنين بأن يتحوّلوا ضحايا الإتجار غير المشروع بالأعضاء البشرية ويتجرّعوه وكأنه «سمّ النجاة» في صراع... البقاء.

ما كان يجري في السرّ وخلف جدران الكتمان، خرج أخيراً إلى العلن في تقرير لصحيفة «التايمز» البريطانية تحت عنوان «لبنانيون يضطرون إلى بيع كلياتهم تحت وطأة تفاقم الأزمة الاقتصادية»، ليعود الضوء إلى قضيةٍ كانت تطفو بين الحين والآخر فوق نهر الانهيار الجارف ثم تخبو مع كل موجةٍ أعتى من الأزمات المتشابكة التي تَغرق فيها «بلاد الأرز» التي لم يعُد مفاجئاً أن يسأل البعض بإزاء سقوطها المريع: هل تتحوّل «سويسرا الشرق» مصنعاً لبيع الأعضاء وتنضم إلى أسفل سلّم البلدان الفقيرة العالم؟ وهل توزّع على العالم كلى وأكباداً وقرنيات كما تصدّر الأدمغة والعقول؟

«تجارة الأعضاء» عبارةٌ بدأت تتسلل إلى يوميات اللبنانيين من باب الفقر تارةً على شكل «عروض» في تجمعاتٍ شعبية، وطوراً عبر تقارير عن حالات موْضعية لأشخاص مواطنين أو نازحين سوريين «اقتادهم» العوز إلى هذا «الخيار المُر»، إلى أن «تفشى» همْساً السؤال المُرْعِب: «كيف نبيع كليتنا ومن يشتري قرنية عين؟ لمَن نتوجه؟».

منذ العام 2019 ومع بداية انتفاضة لبنان وبدء تدهور أوضاعه برزت إشارات تُنْذِرُ بأن بيع الأعضاء بات متداولاً. وظهرت حينها سيدة عُرف في ما بعد أن اسمها ح.

المعلم في إحدى ساحات الانتفاضة وإلى جانبها ولدها القاصر وكانت تحمل علناً لافتة كتب عليها: «كلية للبيع بسعر مُغْرٍ، الموضوع مستعجل» وذيّلت العبارة برقم هاتفها.

آنذاك أحدث الخبر صدمة لدى الرأي العام اللبناني وسارع أهل الخير إلى الاتصال بالسيدة المذكورة لمساعدتها وتأمين إيجار بيتها وتكلفة تعليم ابنها.

وفيما كان الناس في الشوارع يعترضون على المنظومة الحاكمة انتشرت ظاهرة عرض الكلى للبيع بشكل علني لتكون صفعةً لضمائر المسؤولين اللبنانيين، على غرار ما حدث في مدينة طرابلس الشمالية حين عمد ثلاثة أصدقاء معاً إلى الإعلان عن رغبتهم ببيع كلياتهم أو فتح باب الهجرة أمامهم، في موقف اعتراضي على ما وصلت إليه أوضاعهم وأحوال البلد.

لكن رغم هذه المَظاهر نفت المصادر الأمنية اللبنانية حينها حصول إتجار بالأعضاء البشرية، ولم تُسجَّل عمليات بيع موثّقة أو تم إثباتها بالتحقيقات.

لكن هذا لا ينفي أن تكون حصلت وسط ستار من السرية يفرضه تفادي مَن تخلى عن «قطعة من جسده» المجاهرة بذلك، وأيضاً انفتاح هذا الملف، كما في كل الدول التي «تزدهر» فيها هذه العمليات، على أبعاد مافيوية.

وفي رواية ناطور بناية في منطقة عاليه، أن ابن أخته الشاب حسّان وهو سوري الجنسيّة في الثالثة والعشرين من عمره، تعرَّض لعملية استغلال في مايو 2018 في منطقة البقاع بعد أن أقنعه «الباش»، وهو وسيطٌ، ببيع كليته لتحسين وضعه المادي مقابل 6000 دولار.

وبعدما اقتنع حسّان وخضع للعملية في شقة سكنيّة مجهّزة بمعدات طبيّة، لم يحصل إلّا على 500 دولار.

وهذه الرواية إن دلت على شيء فعلى وجود شبكة منظمة أو أكثر تعمل في الخفاء التام وتؤمن حدوث «البيع والشراء» بتكتم شديد بحيث لا تطاولها القوى الأمنية.

فقراء يتأرجحون بين الموت والحياة

اليوم تعود هذه الظاهرة إلى الضوء مع تقرير «التايمز»، وصدقيتها هذه المرة أكثر التصاقاً بالواقع.

فالفقر لم يعد صورة ضبابية يتعايش معها اللبناني بـ«التي هي أحسن» بل صار سوطاً ينهش في لحمه ولحم أولاده يومياً تاركاً إياهم كالموتى الأحياء.

صار العوز قضية موت أو حياة وباتت المعادلة إما بيع الأعضاء أو خسارتها كلها... هذا الواقع الذي كان مقتصراً على اللاجئين السوريين في لبنان في مخيماتهم أو في أماكن وجودهم، انتقل إلى اللبنانيين المهمشين الفقراء في الأطراف وداخل أحزمة البؤس الذين رأوا فيهم «خلاصاً» يؤمّن لهم قوت يومهم أو سداد ديونهم.

وبدأت بعض الاتصالات تصل إلى الجمعيات التي تعنى بوهب الأعضاء للسؤال عن ثمن الكلية أو غيرها من الأعضاء من أشخاص لبنانيين وبعض السوريين.

وفي المقابل تحرص الهيئة الوطنية لوهب الأعضاء المنوط بها تولي كل ما يتعلق بهذا الموضوع، على التأكيد لكل السائلين أن موضوع البيع مرفوض كلياً وغير قانوني ولا أخلاقي أو إنساني.

علماً أن الضوابط التي وضعتها الهيئة لتنظيم عمليات وهب الأعضاء تعتمد على شرطين أساسيين: عدم وجود أي حافز مادي، وحماية الواهب الحي التي تشترط إلزامية القيام بتقييم طبي شامل من فريق الزرع وتقييم نفسي ومتابعة دورية بعد الزرع.

وفي الواقع بيع الأعضاء ممارسة غير شرعية لا يسمح بها القانون في لبنان انطلاقاً من التزامه ببروتوكول «باليرمو» الذي يقضي باعتماد تدابير تشريعيّة لتحريم الإتجار بالأشخاص، وبقانون 164 الذي صدر عام 2011 لمعاقبة هذه الجريمة، وتحريم الإتجار بالأشخاص الذي يشمل استغلال اليد العاملة، والإتجار بالأعضاء البشرية، وأسوأ أشكال استغلال الأطفال في العمل، بالإضافة إلى الاستغلال الجنسي.

وكان لبنان قد أطلق في العام 2020 حفل تجهيز مكتب مكافحة الاتجار بالبشر بمساعدة المنظمة الدولية للهجرة وبتمويل من الحكومة الهولندية.

وتضّمنت هذه المبادرة إعادة تأهيل لوحدة مكافحة الاتجار بالبشر، وإجراء تدريب متخصص حول كيفية التحقيق بحالات الإتجار بالبشر وتطوير أداة لهذا التحقيق المتخصص بغية النظر إلى الجوانب الثلاثة لهذه الجريمة لناحية الفعل، الوسيلة والهدف، مع الحرص على معاقبة المرتكبين لهذه الأعمال وتأمين نظام حماية ومساعدة للضّحايا الذين لا يلحظ القانون كيفية التعاطي معهم.

«تبرع» مُقنَّع على مواقع التواصل رغم وضوح القانون اللبناني، ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي صفحات خاصة لبيع الأعضاء ومنها صفحة «بيع كلية في لبنان» التي بلغ عدد متابعيها 112 شخصاً.

الصفحة التي انطلقت صيف 2020 باتت اليوم نشطة بشكل ملحوظ، وعروض بيع الكلى فيها على تزايد واضح.

وخلال تصفحنا لها طالعنا الكثير من «العروض»: «شاب لبناني يريد بيع كلية بسبب الأوضاع المادية والحاجة مقابل مبلغ مادي، العمر 27 سنة الفئة O+ يتمتع بصحة جيدة جداً»، وآخَر ينشر «أريد بيع كليه لأسباب مادية وصحتي كتير جيدة فئة دم B+وأنا من لبنان مبلغ بسيط كتير».

أما سبب ازدياد العروض فيعود إلى كون الصفحة قد عرضت منشوراً لأحد الأشخاص يطلب فيه متبرّعاً بكلية يكون فوق الـ 27 من عمره وفئة دمه«0-» أو«O+» على أن يكون من الجنسية اللبنانية فقط.

ولكن تحت مسمى «متبرع» وجد الكثيرون فرصة مقنّعة للبيع والشراء، فعرض أكثر من شاب لبناني وسوري «التبرّع» بكليته.

حتى أن أحد الأطفال وهو في السادسة عشرة من عمره عرض بيع كليته واستفسر جدياً عن العنوان.

أما واضع المنشور فقد أصرّ على أن تكون جنسية «الواهب» لبنانية وذلك في تَحايُل واضح على القانون اللبناني الذي يفرض، بحسب قوله، أن يتبرّع لبناني للبناني.

وهنا تكمن القطبة المخفية التي تفتح الطريق ربما لفهم أكبر لما يجري.

فمَن يتولى دور الوسيط بين المتلقي و«المتبرّع» لا يذكر مطلقاً أي بدَل مادي يُقدّم للمتبرّع، بل يطلب فقط أن تكون الأنسجة وفئات الدم متطابقة، وهو بذلك لا يقوم بأي عمل مناف للقانون.

لكن الجريمة تحدث بحسب ما بات متداولاً حين تتم عملية استئصال الكلية أو جزء من الكبد أو قرنية العين في ظروف لا إنسانية وفي أماكن غير مجهزة طبياً للقيام بأي عمل جراحي أو طبي، وعدم مراقبة المتبرع بعدها والتأكد من مضاعفات حالته الصحية جراء العملية.

هذا عدا التلاعب بالدفع حيث غالباً ما يتم إعطاء الواهب جزءاً أقل بكثير من المبلغ المتَّفَق عليه. بيع الكلى تجارة مغمسة بالدمفي تصفح للمواقع التي تُعنى بالتبرع، نلاحظ أن العرض والطلب على الكلى هو الأشدّ، حيث إن تجارة الكلى هي الأعلى مردوداً.