المصدر: الراي الكويتية
الكاتب: إيليا ج. مغناير
الجمعة 5 أيلول 2025 08:02:23
يتمتع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، اليوم، بثقة مفرطة، يؤمن بأنه يُعيد تشكيل الشرق الأوسط. بعد قرابة عامين من الصراع الطاحن، يستعد لما يأمل أن تكون المعركة الحاسمة: احتلال مدينة غزة.
ولهذا الغرض، يحشد الجيش الإسرائيلي نحو 60 ألف مجند جديد - وهو عدد استثنائي لجبهة واحدة. ويكشف حجم هذا الحشد عن جسامة المهمة، وكذلك عن حجم الخسائر المحتملة.
لكن بالنسبة إلى نتنياهو، فإن المخاطر السياسية تفوق التكلفة البشرية. فهو يحسب أن انتصاراً دموياً في غزة سيُرسّخ إرثه، ويُؤمّن ائتلافه اليميني المتطرف، ويُسفر عن مقتل الأسرى الإسرائيليين، مما يُزيل الضغط عن خططه التوسعية، ويُعزّز موقفه لمواجهة هدفه التالي، أي لبنان.
في رؤية نتنياهو، غزة ليست نقطة نهاية، بل نقطة انطلاق. فبمجرد القضاء على «حماس» وإخضاع غزة، يرى فرصةً سانحةً للتوجه شمالاً، ساعياً إما إلى نزع سلاح «حزب الله»، الهدف الذي طال انتظاره، أو في حال الفشل، إلى احتلال مساحات شاسعة من الأراضي اللبنانية جنوب نهر الليطاني.
الهدف مزدوج: تجريد «حزب الله» من عمقه الإستراتيجي، وإعادة تشكيل الواقع الديموغرافي للحدود. عبر اقتلاع المجتمعات الحدودية، وهدم المنازل، وجعل القرى غير صالحة للسكن، وهو ما يمكن إسرائيل تالياً من إنشاء منطقة عازلة دائمة، مفرغة من سكانها، وإعادة تعريفها كضرورة أمنية.
هذا الدمار، المُصوَّر على أنه «حماية»، من شأنه أن يخدم الغرض السياسي المتمثل في إقناع المستوطنين بالعودة إلى البلدات الشمالية التي يرفضون السكن فيها طالما أن وجود «حزب الله» يلوح في الأفق عبر الحدود.
وإلى جانب المخاوف الأمنية المباشرة، ترتبط هذه الإستراتيجية بمحور أيديولوجي أوسع يقوم على تمهيد الطريق لـ«إسرائيل الكبرى» المستقبلية.
ففي دولة بلا حدود ثابتة أو دستور مكتوب، لا يُعد التوسع انحرافاً، بل سمة هيكلية لوجودها ومشروعها طويل الأمد. لقد وسّع نتنياهو بالفعل رقعة نفوذ إسرائيل، ويمكنه توسيعها أكثر من خلال ترسيخ قبضته على التلال الجديدة المحتلة منذ حرب سبتمبر 2024.
ويعزّز هذا الطموح الدعم غير المحدود من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي منح نتنياهو غطاءً سياسياً وإمدادات عسكرية في كل مرحلة. كما يعكس تزايد الضغوط الداخلية من المستوطنين، الذين يُملون في شكل متزايد الأولويات العسكرية.
تزعم إسرائيل أن عمليات نشر القوات الجديدة على طول الحدود اللبنانية هي مجرد عمليات تناوب، تهدف إلى إتاحة الفرصة لضباط محترفين لجبهة مدينة غزة.
ومع ذلك، رفع «حزب الله» مستويات تأهبه، مشيراً إلى أن إسرائيل اعتمدت منذ فترة طويلة على الخداع في حروبها مع لبنان وإيران. بالنسبة إلى «حزب الله»، كما هو الحال بالنسبة إلى طهران، لا تُقرأ هذه التحركات كمناورات دفاعية، بل كتحضيرات لتصعيد لا يمكن أن يُستبعد أبداً.
«حزب الله» العقبة الرئيسية
يدرك نتنياهو أن «حزب الله» ليس خصماً عادياً. منذ ظهوره خلال الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، تحول هذا التنظيم إلى كيان هجين: جزء منه حزب سياسي، جزء منه ميليشيا، جزء منه مؤسسة اجتماعية.
نمت ترسانته من الأسلحة الصغيرة وصواريخ الكاتيوشا إلى صواريخ دقيقة التوجيه وطائرات بدون طيار وأنظمة دفاع جوي. وأنتجت خبرته الميدانية، التي صقلت في الحروب ضد إسرائيل، كوادر من القادة المتشددين والمقاتلين المنضبطين.
وتعترف المخابرات الإسرائيلية بأنه في أي حرب جديدة، حتى بعد نكسة 2024، يمكن لـ«حزب الله» أن يلحق أضراراً جسيمة بالبنية التحتية ويجبر أجزاء كبيرة من البلاد على اللجوء إلى الملاجئ لأسابيع متتالية.
بالنسبة إلى نتنياهو، فإن ترسانة الحزب ليست مجرد تحدٍ عسكري، بل تحدٍ سياسي. طالما احتفظ الحزب بأسلحته، فلن يشعر المستوطنون في الشمال بالأمان.
وتالياً فإن وعد حكومته بتوفير «الأمن الكامل» للمستوطنين - الذين مازالوا يرفضون العودة بعد حرب 2024 - مازال غير محقق طالما استمرت صواريخ «حزب الله» في ترسانته وفشلت خطة الحكومة اللبنانية بنزع السلاح وتكيف الحزب مع التحدي الجديد واستكمل تعيين جميع قادته مع البدائل المناسبة في حالة الحرب.
يرى رئيس الوزراء الإسرائيلي أن تجذر «حزب الله» في المجتمع اللبناني يجعل التوسع الإقليمي السبيل الوحيد. فمن خلال الاستيلاء على الأراضي جنوب الليطاني، وتدمير المنازل، بإفراغ القرى، يأمل نتنياهو في حرمان «حزب الله» من قاعدته الشعبية مع إنشاء منطقة حماية للمستوطنين.
فهذا المنطق يعكس إستراتيجية إسرائيل السابقة في جنوب لبنان، حيث تم الحفاظ على «حزام أمني» حتى عام 2000 بتكلفة باهظة ودون مكاسب إستراتيجية تُذكر.
ومع ذلك، يبدو نتنياهو عازماً على تكرار التاريخ، مقتنعاً بأن الدعم الأميركي وترسانة إسرائيل الموسعة هذه المرة يمكن أن يُرجحا كفة الميزان.
لكن عملياً، نادراً ما تحقق المناطق العازلة الأمن لأنها تُصبح بؤراً لهجمات العصابات المسلحة، والاستنزاف، وتجدد دورات المقاومة. إذ ان «حزب الله»، بعيداً عن الاختفاء، سيتكيف مرة أخرى - ومن المرجح أن يخرج أقوى كمدافع مُعلن عن المدنيين اللبنانيين النازحين.
عامل ترامب والغطاء الأميركي
شجعت رئاسة ترامب الثانية نتنياهو أكثر. من الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان الرفض العلني لقدسية حدود سايكس بيكو، وهو دأب على مواءمة السياسة الأميركية مع الطموحات الإقليمية الإسرائيلية. ومن هنا فُسِّر تصريحه بأن «إسرائيل صغيرة جداً» على نطاق واسع على أنه ضوء أخضر للتوسع.
كما عززت واشنطن إسرائيل عسكرياً، ونقلت أنظمة متطورة مثل بطاريات ثاد من الإمارات العربية المتحدة لتعزيز الدفاعات الجوية الإسرائيلية. فعمليات النشر هذه تعكس توقعاً مشتركاً في كلتا العاصمتين باحتمال نشوب صراع آخر مع إيران أو «حزب الله» أو على الأرجح الاثنين معاً.
يُمثل هذا الغطاء الأميركي فرصة تاريخية لنتنياهو. فمع انقسام أوروبا وانشغال روسيا بأوكرانيا، يُقدّر نتنياهو أن إسرائيل قادرة على إعادة رسم حدودها الشمالية مع لبنان وسورية دون مواجهة تداعيات دولية خطيرة.
ردّ «حزب الله» على تدابير نتنياهو برفع مستويات تأهبه، وتوزيع ترسانته، وتقوية هياكله القيادية. لا تتمثل إستراتيجية الحزب في هزيمة إسرائيل في شكل مباشر، بل في ضمان البقاء وفرض تكاليف باهظة لدرجة تدفع المجتمع الإسرائيلي إلى التشكيك في جدوى الحرب.
حتى لو تمكنت إسرائيل من احتلال أراضٍ أو إلحاق خسائر فادحة به، فإن تجذر «حزب الله» في لبنان يضمن استحالة القضاء عليه.
مخاطر التصعيد الإقليمي
يكمن الخطر على إسرائيل في أن تكون تكلفة الحرب ضد الحزب أعلى من تكلفة غزة. تُقدم الحرب في مدينة غزة، والتي يُتوقع أن تُسفر بالفعل عن خسائر فادحة، لمحةً عما ستُسفر عنه مُحاربة «حزب الله» في جنوب لبنان. إن ترسانة الحزب، إلى جانب الانضباط الميداني والدعم الإيراني، تجعل أي تقدم إسرائيلي حرب استنزاف.
إقليمياً، قد يمتد التصعيد إلى ما وراء لبنان. فإيران، على الرغم من تضررها من العقوبات والضربات، مازالت قادرة على دعم «حزب الله» في شكل مباشر وغير مباشر لإفساد طموحات رئيس الوزراء الإسرائيلي.
فمنطق نتنياهو متسق: التوسع يُتيح بقاءً سياسياً، والسلام يُتيح انتحاراً سياسياً. التطبيع مع سورية أو لبنان يتطلب انسحابات إقليمية لن يقبلها ائتلافه اليميني المتطرف أبداً. على النقيض من ذلك، تُمكّنه المواجهة من تعزيز مكاسبه، وحشد الدعم المحلي، واسترضاء المستوطنين.
إن شعوره بالنشوة بعد غزة، إلى جانب دعم ترامب غير المشروط، يجعل المزيد من الصراع مع «حزب الله» أكثر احتمالاً من التسوية. ومع ذلك، يُشير التاريخ إلى أن مثل هذه الحروب نادراً ما تنتهي بانتصار حاسم. قد تستولي إسرائيل على أراضٍ، لكن الحزب سيصمد - كما فعل منذ عام 1982، مُتكيفاً تحت وطأة النيران، ويخرج من كل حرب مُدمىً ولكنه غير مُنكسر.
الجائزة الكبرى
تتجه أنظار نتنياهو بالفعل نحو الشمال. غزة ساحة معركته المباشرة، لكن لبنان جائزته الكبرى. بسحق «حماس» واحتلال مدينة غزة، يأمل أن يُظهر أن إسرائيل قادرة على إملاء مستقبل المنطقة بالقوة. والخطوة التالية، من وجهة نظره، هي كسر شوكة «حزب الله»، إما بنزع سلاحه أو باحتلال مدمر آخر للأراضي اللبنانية.
لكن هذا الطموح يحمل في طياته مخاطر جسيمة. فقطع الطريق على تزويد «حزب الله» بالصواريخ وعلى مصادر تمويله قد يُضعفه، لكنه لن يقضي على حركة متجذرة في شرعية اجتماعية ومظالم تاريخية. لن تُحقق حرب عبر نهر الليطاني الأمن، بل ستُخلق دورة أخرى من الدمار والتشريد والمقاومة.
قد يشعر نتنياهو بنشوة نصرٍ مُبتهج، لكن دروس الماضي مازالت قائمة: لا يُمكن سحق «حزب الله» بالقوة وحدها، وكل منطقة عازلة تبنيها إسرائيل تُخاطر بأن تُصبح بذرة حرب مقبلة. قد يُحافظ التوسع على بقائه السياسي، لكنه لا يُمكن أن يُحقق السلام الدائم الذي يحتاجه جيران إسرائيل - وحتى مستوطنوها - بشدة.