مؤتمر جنيف حول ميثاق الاعتدال في لبنان... بعض الضوء في زمن العتمة

بدعوة من المركز الدولي للدراسات الإستراتيجية والإعلام، توافد إلى جامعة جنيف السويسرية سياسيون ونخب من اتجاهات لبنانية متنوعة، ومعهم كوكبة من السفراء والديبلوماسيين وقادة الرأي من المنطقة العربية ومن أوروبا وممثلون عن الحكومة السويسرية وعن الأمم المتحدة، للبحث عن مقاربات سياسية ودستورية جدية يمكن اعتمادها لمساعدة لبنان في الخروج من الاختناق الذي يعيشه، وترسم له خريطة طريق نظرية محايدة تكفل حفظ مستقبل الدولة.

الحاضرون يمثلون تنوعا كبيرا وينتمون الى اتجاهات سياسية وعقائدية مختلفة، والبارز أن بعض الأشقاء العرب، وأصدقاء من دول أوروبية متعددة، من الذين يخشون الحضور الى لبنان، او أن دولهم تمنعهم من السفر إليه، حضروا، ويبدون اهتماما بلبنان ومستقبله، ويتعاطفون مع شعبه المنكوب، من دون أن يخفوا امتعاضهم من القيمين على الحكم فيه، ومن بعض القوى السياسية والميليشياوية، معتبرين أن هؤلاء أساءوا الى البلد الجميل، وفرطوا في مكانته المرموقة بين الأمم، وحولوه الى ساحة جحيم مضطربة لا تصلح للاستثمار، ولا العيش الكريم. الأجواء السائدة في مؤتمر جنيف يغلب عليها الاعتدال، ويتفق الجميع تقريبا لناحية التأكيد على أهمية استمرار لبنان كدولة مستقلة تملك مميزات غير متوافرة في دول أخرى، وهو ضرورة عربية وشرق أوسطية لا غنى عنها، بصرف النظر عن صغر حجمه، وضعف إمكانياته.

وتسمع في أروقة المؤتمر تردادا للشعار الذي أطلقة البابا يوحنا بولس الثاني عام 1997 «ان لبنان أكثر من وطن، انه رسالة» للإضاءة على الاختلال القائم حاليا، بحيث جر بعضهم بلد الرسالة الى زواريب المماحكات الإقليمية، واستخدموه لفرض أجندات قاسية، وواقعه الحالي لا يشبه أي مرحلة من تاريخه، حتى إبان الحروب التي مرت عليه، لأن غالبية الشعب اللبناني لم يسبق أن فقدوا الأمل بمستقبل بلد الأرز كما هو عليه الحال اليوم، وأشقاؤه وأصدقاؤه لم يشعروا بالخوف عليه في أي مرحلة من مراحل الماضي الصعبة كما هو حاصل اليوم، حتى خلال فترة الوصاية بين العام 1990 والعام 2005، كان هناك بعض المحرمات الممنوع المس بها، بينما تغلب اليوم سياسة الاستباحة والاستبداد عند الذين يملكون فائضا من القوة من السلاح غير الشرعي، وهؤلاء يتجاوزن كل الخطوط الحمراء، بما في ذلك الخطوط التي تقف حاجزا بين بقاء الدولة واندثارها بالكامل.

المؤتمر الذي سيطلق ميثاق الاعتدال اللبناني تحت سقف الدستور، أضاء على مسائل جوهرية تتعلق بالإشكاليات القائمة، ومنها استحالة التعايش بين منطق الدولة ومنطق الفوضى والتفلت، وفي صعوبة ترسيخ ازدواجية السلطة، كما هو حاصل عند دول «محور الممانعة» لناحية تحكم القوى الأمنية - المعلنة او المخفية - بالقرار، وتبقى مؤسسات الدولة مجرد غطاء لها، وتنصاع لتوجيهاتها، بينما تتحمل هذه المؤسسات الشرعية المسؤولية عن معيشة المواطنين وأعباء الاقتصاد، من دون أن تقع تبعية ذلك على قوى الأمر الواقع. وفلسفة العلوم السياسية الحديثة ترفض أي فصل للاقتصاد عن السياسة والأمن، بل ان وضعية الاقتصاد تعتبر نتيجة لنجاحهما أو فشلهما، وما يشهده لبنان من انهيار، هو حاصل طبيعي للاختلال الأمني وللاضطراب السياسي، ولضعف إدارة الدولة وعدم قدرة هذه الإدارة على المواءمة بين مصالح الشعب العليا، وبين الخيارات السياسية المتبعة.