مرايا المأساة اللبنانية في "خربة" اسمها "قصر العدل" في بيروت

تُنسيك ظواهر عدّة  في لبنان، بينها الأحياء التي تعج بالمطاعم والمقاهي المزدحمة، أنّ "بلاد الأرز" تعيش واحدة من أسوأ أزمات العالم الماليّة والاقتصادية والاجتماعية.

 

ويمكن لمن يكتفي بالجولات السياحية في بلد يصمد جماله الطبيعي الخلّاب أمام كلّ محاولات تشويهه، ويقاوم قطاع خدماته مآسي الانهيار، أن يتوهّم، خصوصًا اذا كان مدخوله بالعملات "الصعبة"، أنّ لبنان بألف خير وأنّ ما يروى من وقائع سيّئة للغاية مجرد "فبركات" هنا ومبالغات هناك.

 

ولكن سرعان ما تسقط هذه الأوهام،وتكتشف، بالعين المجرّدة، أنّ لبنان، كما يقول المثل الشعبي "يعيش من قلّة الموت".

 

ويتجسّد المشهد الصادم، مع بدء "جولتك" في "قصر العدل" في بيروت الذي يضم الى غرف التحقيق والنيابات العامة ومحاكم الاستئناف والتمييز والمجلس العدلي مقرّات: مجلس القضاء الاعلى، مجلس شورى الدولة، والنيابة العامة التمييزيّة ونقابة المحامين.

 

الوقائع التي تقع تحت ناظريك صادمة للغاية: حيطان مشلّعة، أبواب محطّمة، أرضيّة متّسخة، ونفايات مجمّعة.

 

المشهد الذي يرافقك من طبقة الى أخرى ومن جناح الى آخر، يوهمك بأنّ المكان الذي تقصده للاجتماع بشخصيّة مرموقة، مهجور، وبأنّك أخطأت العنوان، لأنّه يستحيل أن تكون هذه حال المقر المؤتمن على نشر العدل بين الناس و إعادة الحق إلى أصحابه وإنصاف المظلوم وحماية المال والملك العامين.

 

ومن يعرف حال قصر العدل في بيروت، بعد انتهاء الحرب التي عصفت بلبنان بين العامين ١٩٧٥ و١٩٩٠، يظن أنّ الزمن قد عاد به الى الوراء أكثر من ثلاثين عامًا، اذ إنّ المشهد الذي كان ماثلًا للأذهان، في العام ١٩٩٢، قد حلّ مجددًا، وشمل الحجر والبشر، اذ إنّ رواتب القضاة قد تدهورت الى المستوى الكارثي الذي كانت عليه في تلك الحقبة.

 

ويقال في اللغة القضائية إنّ الشكل هو المدخل الى الأساس.

 

و"شكل" ما يُسمّى ب"قصر العدل" يسمح لك بفهم أعمق لما يعاني منه أساس العدالة في لبنان.

 

في هذه اللحظة، تنقشع الرؤية، فتعرف كيف يمكن لمسؤول في "حزب الله"(وفيق صفا)  أن يقصد، باسم حزبه المدجّج بالسلاح والمال، مكتب رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبّود، ويطلب، من دون خجل أو وجل، "قبع" المحقق العدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار، وكيف لا يتردّد رئيس الجمهوريّة ميشال عون الذي يحكم من قصر لا تنقصه أثمن الحاجيات، في رفض توقيع التشكيلات القضائية العامة، وكيف "يتواقح" وزير المال يوسف خليل، باسم "حركة أمل"، في إلقاء محاضرة في العدالة لتعليل رفض توقيع مرسوم تشكيلات رؤساء غرف محكمة التمييز ممّا يديم التعطيل في التحقيقات الخاصة بانفجار مرفأ بيروت، وكيف لا يخجل وزير العدل هنري خوري من ارسال اقتراح بتعيين قاضية محسوبة ،علنًا وجهارًا، على "التيّار الوطني الحر" لتكون، في بدعة قانونية ظاهرها إنساني وباطنها سياسي،رديفة للمحقق البيطار المكفوفة يده، قصدًا وتحايلًا، عن ملف انفجار المرفأ، وكيف باتت غالبية قضاة مجلس القضاء الأعلى مرتبطة ارتباطًا موثوقًا، وبعلنيّة غير مسبوقة، بالمرجعيات السياسية في البلاد وتعمل، من دون حاجة الى أيّ ستر، على تمرير مصالحها "الظالمة".

 

وأنتَ تجول في ما يسمّى "قصر العدل" في بيروت، تُدرك أنّ من لا يقوى على الأوساخ المتراكمة والنفايات المجمّعة والأبواب المحطّمة والمصاعد المعطّلة والحمامات المقفلة، يستحيل أن يقوى، إلّا إذا كان استشهاديًّا، على إرادة "حزب الله" التي تخفي ارادات الطبقة الحاكمة، في ملف انفجار المرفأ وغيره، وعلى مافيا الفساد التي يكفيها أن تقارن بين "هفافة" قصورها و"قرف" قصر العدل، حتى تشعر بتفوّقها.

 

في قصر العدل، تدرك، من دون حاجة الى جهد، أنّ "الوعود الورديّة" بغد لبناني أفضل ليست سوى "حلم ليلة صيف"، فكيف يمكن للعاجز عن فرض مكان يليق بوظيفته السامية أن يعيد لك حقًا مسلوبًا، وودائع مصادرة، ودولة قادرة، وادارة نزيهة، وسياسة نزيهة، واقتصادًا معافى ومستثمرًا هاربًا، ورأس مال مهاجرًا؟

 

لقد اختصر مشهد قصر العدل في بيروت الحقيقة اللبنانية القبيحة والمرّة، وألغى، بلحظات، الأوهام التي يتركها الازدحام في بعض المطاعم والمقاهي، وأدخلك الى منازل "الأنين اللبناني".

 

وكان هذا المشهد ليكون عابرًا، لو أنّ هؤلاء الذين أوصلوا الحال إلى ما هي عليه قد تغيّروا أو غيّروا أنفسهم، ولكنّ الصراع المفتوح على تشكيل الحكومة والضياع في التوصّل الى انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، ونوعيّة الخلافات بين شرائح الطبقة السياسية، تُظهر  أنّ التدحرج في الهاوية مستمر.

 

مشهد ما كان يومًا قصرًا للعدل يدمي القلب ويثبط العزائم ويُعلي المظالم ويعملق "الاستكبار"، ويجعلك تقتنع أكثر فأكثر بأنّ خلاص لبنان يبدأ بالخلاص من هذه الطبقة الحاكمة وبأنّ فتح الأفق على الحلول، ومهما كثرت الشعارات الجميلة، يستحيل أن يبدأ من الداخل.

 

في المحصّلة، إنّ النفايات المتراكمة في ما يسمّى "قصر العدل" في بيروت ليست سوى مرآة تعكس واقعًا لبنانيًا لا خلاص منه إلّا ببذل ما قد لا يكون متوافرًا: المزيد من الدم والدموع!