معجزة في مصرف لبنان: ميزانيّة تنتفخ موجوداتها...بالخسائر

كتب علي نور الدين في المدن:
يصعب فهم ما يجري في مصرف لبنان، إذا ما حاولنا تحليل الأرقام وفقًا لمؤشّرات المحاسبة الماليّة التقليديّة، أو بالأحرى وفقًا لمؤشّرات المحاسبة الماليّة التي تستند إلى المعايير الطبيعيّة المقبول بها في جميع أنحاء العالم. ثمّة لغة محاسبيّة عجبية ابتدعها المصرف المركزي منذ سنوات ما قبل الأزمة، لإخفاء العمليّات التي كانت تبدّد أموال المودعين في تلك المرحلة. وهذه اللغة الخارجة عن أي منطق مالي سليم، هي تحديدًا ما يجعل الميزانيّة العامّة اليوم مشوّهة بشكل كبير، إلى الحد الذي يحول حتّى دون القدرة على فهم وضعيّة مصرف لبنان الماليّة، أو فهم التحوّلات التي تطرأ على موجوداته وإلتزاماته. واليوم، بمرور ثلاث سنوات بالتمام والكمال على ظهور الأزمة المصرفيّة عام 2019، بات بالإمكان ملاحظة أثر هذه التشوهات المحاسبيّة المخيفة على الأرقام التي ينشرها مصرف لبنان.

انتفاخ الموجودات رغم الخسائر
ثمّة مصرف مركزي فقد بين تشرين الأوّل 2019 وتشرين الثاني 2022 أكثر من 23.1 مليار دولار من موجوداته الخارجيّة، نتيجة جملة من التطورّات التي تجمع ما بين دعم الاستيراد وإساءة استعمال هذا الدعم، وتهريب السيولة لمصلحة كبار القوم. وخلال السنة المنصرمة، بين تشرين الأوّل 2021 وتشرين الأوّل الحالي، خسر بند الذهب في الميزانيّة 7.62% من قيمته، نتيجة تراجع قيمته في الأسواق العالميّة.

ورغم كل هذه التحوّلات، ارتفعت قيمة الموجودات الإجماليّة الخاصّة بالمصرف المركزي: من 136.2 مليار دولار في تشرين الأوّل 2019، إلى 154.8 مليار دولار في الفترة المماثلة عام 2020، إلى 161.1 مليار دولار سنة 2021، وصولًا إلى 184.8 مليار دولار في تشرين الأوّل من هذا العام. وبصورة أوضح: نحن أمام مصرف مركزي ارتفعت قيمة موجوداته الإجماليّة على الورق بنسبة 36%، وبقيمة 48.2 مليار دولار، خلال ثلاث سنوات كان من المفترض أن تكون سنوات انهيار مالي، يتكبّد فيها المصرف المركزي الخسائر من موجوداته بدل أن يراكمها!

طلاسم محاسبيّة
البحث عن التفسير، يقودنا تلقائيًّا إلى مسألتين. الأولى، هي نوعيّة الطلاسم التي يعتمدها مصرف لبنان في التصريح عن ميزانيّاته، والتي تسمح بإخفاء الخسائر على نحو يضخّم موجودات وهميّة، بدل أن يخفّض من حجم الموجودات بعد الاعتراف بالخسائر. أمّا الثانية، فهي نوعيّة الإلتزامات التي كانت تتراكم على مصرف لبنان في مقابل تراكم الموجودات الوهميّة، وأثرها على انتظام عمل السياسة النقديّة في المستقبل.

لفهم سبب انتفاخة الموجودات، يكفي الذهاب إلى البند الغامض في الميزانيّة، المسمّى بند "الموجودات الأخرى". هناك، كانت قيمة هذه الموجودات تنتفج بين تشرين الأوّل 2019 وتشرين الأوّل 2022 من 45.5 مليار دولار، إلى أكثر من 70.24 مليار دولار، بزيادة قيمتها 24.74 مليار دولار، ونسبتها 54%. وبعد كل هذا التضخّم، بات حجم هذه البند يوازي نحو 48% من إجمالي الموجودات المصرّح عنها في الميزانيّة. ببساطة، يفسّر تضخّم هذا البند وحده نحو نصف الزيادة المحققة في موجودات مصرف لبنان خلال السنوات الثلاثة.

بند الموجودات الأخرى، هو البند الذي بدأ مصرف لبنان باعتماده منذ زمن لإخفاء الخسائر، عبر احتساب موجودات وهميّة لا يمكن احتسابها كموجودات في أي نظام محاسبي طبيعي. هناك، كان المصرف المركزي يخفي خسائر خلق النقد لسداد الودائع المدولرة بالليرة، والخسائر الناتجة عن الهندسات الماليّة، ودعم سعر الصرف، وغيرها من العمليّات التي قام بها مصرف لبنان طوال السنوات الماضية. وبما أن بعض هذه العمليّات، كالهندسات الماليّة، جاءت من خارج أي عرف مصرفي سوي، كان من الطبيعي أن يضطر الحاكم لابتداع أعراف محاسبيّة جديدة لتدوين هذه العمليّات في ميزانيّاته طوال السنوات الماضية.

انتفاخ بند النقد المتداول خارج مصرف لبنان
في الوقت نفسه، ومن الجهة الأخرى من الميزانيّة، كان بند إجمالي النقد الموضوع بالتداول خارج مصرف لبنان، أي السيولة المتداولة ورقيًّا بالليرة، يرتفع من 7.3 ألف مليار ليرة لبنانيّة في تشرين الأوّل 2019، إلى أكثر 41.64 ألف مليار ليرة في تشرين الأوّل 2022، ما يمثّل تضخمًا بنحو 5.7 أضعاف خلال مدّة لم تتخطّى الثلاث سنوات. مع الإشارة إلى أنّ قيمة النقد الذي يصدره مصرف لبنان تدخل في الميزانيّة في بند منفصل ضمن الإلتزامات، ما يساهم بدوره في تضخيم حجم الميزانيّة من جهة، وزيادة انكشاف مصرف لبنان على خسائر إضافيّة إذا تم استعمال هذا النقد لشراء الدولارات من السوق .

في الخلاصة، من الأكيد أنّ التشوّهات في معايير المحاسبة التي يعتمدها مصرف لبنان، الخارجة عن المألوف، هي ما سمح طوال السنوات الثلاث الماضية بتضخيم الميزانيّة على هذا النحو، بفضل تضخّم البنود التي تعبّر عن خسائر متراكمة ومخفيّة. ولهذا السبب بالتحديد، بات عمليّة معالجة المعايير المحاسبيّة المعتمدة مرتبطة بدورها بعمليّة معالجة الخسائر نفسها. فالمضي بمعايير محاسبيّة شفّافة ودقيقة، يفترض أولًا التخلّص من الخسائر المتراكمة المخفيّة وفق المعايير المحاسبيّة المشوّهة والمعتمدة اليوم.