من "ثكنة الشيخ عبد الله" الى "مناورة عرمتى": رسائل مغلفة في أكثر من اتجاه

قبل اربعين عاما وفي ايار من ذلك العام 1983 بدأت الخطوات الأولى لتأسيس ما عرف بـ "حزب الله" فحضرت الى العاصمة السورية بعثة ايرانية رفيعة المستوى تجمع فريقا من الديبلوماسيين والعسكريين من قادة الحرس الثوري الإيراني ومؤسسيه فلم يكن يمر على ولادته أكثر من ثلاث سنوات في أعقاب فوز ثورة الخميني بالنظام في إيران وابعاد الشاه رضا بهلوي عن قصره.

وفي اوائل الخريف من ذلك العام كانت اولى الثكنات العسكرية المعروفة بـ "ثكنة الشيخ عبدالله" القاعدة العسكرية الاولى التي منحت للحزب بالتعاون والتنسيق بين القيادتين الايرانية والسورية من اجل ان يكون للحرس الثوري موطىء قدم قريبة من شاطئ المتوسط. فكان ما كان واسقطت اللافتة التي تشير الى اسم الثكنة ورفعت شعارات الحزب التي لم يكن أحد يعرف شكلها بعد، معطوفة على إعلان الحرب على الكتائب بدلا من اسرائيل او اي هدف آخر يمكن احتسابه على لائحة "الاستكبار العالمي" الذي شكل هدفا للثورة الايرانية. ولأن الزمن تلاقى وبداية ولاية  رئيس الجمهورية الشيخ امين الجميل كتب على إحدى اللافتات "تحرير قاعدة الشيخ عبد الله عبر جماهير حزب الله هو الخطوة الأولى نحو التحرّر من الكتائب".

على هذه الخلفية التاريخية أجرت مراجع سياسية وديبلوماسية عبر "المركزية" قراءة هادئة لما انتهت اليه مناورة حزب الله في "ثكنة عرمتى" الجنوبية التي تحولت منذ سنوات عدة من اكبر المراكز العسكرية العلنية لـ "حزب الله" بكامل المواصفات التي تعبر عن وجود الحزب العسكري المعفى من كل القرارات التي اتخذت من ثلاثة وثلاثين عاما تاريخ التوصل الى "اتفاق الطائف" الذي عد محطة مفصلية لإنهاء الوجود المسلح وتسليم سلاح الميليشيات للدولة اللبنانية تحت شعار "تحرير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي" قبل ان يتطور الامر الى شعار يطلق من وقت لآخر يقول بـ "إزالة اسرائيل من الوجود بعد تحرير القدس".

وانطلاقا من هذه المعادلة التي عززت الفرز بين اللبنانيين على خلفية البحث عن مصير "الدويلة" الناشئة على أرض "الدولة" التي تنحو سريعا في الاشهر الاخيرة الى المزيد من التفكك والإنهيار فجاءت المناورة الاخيرة لتحكي عن البديل منها ولتؤدي الى سلسلة من الرسائل المباشرة والمشفرة في آن.

ففي الرسائل المباشرة التي حرص الحزب على اطلاقها قبل المناورة وبعدها وقال عبر مواقفه الرسمية  ان المناورة نقلت استراتيجية الحزب من الخطط الدفاعية الى الهجومية وترجمها بعبارة "سنعبر". ولذلك فهي موجهة ضد العدو الاسرائيلي وخصوصا عندما ركزت على وجود القدرة العسكرية الجاهزة للعبور الى شمال فلسطين المحتلة، وعدم الاكتفاء بوجودها على الأراضي اللبنانية. وهو امر يقتضي  خرق الحدود وتدمير الجدار المنصوب من الباطون المسلح والقيام بعمليات للمرة الاولى على أراض غير لبنانية بهدف تعزيز ما يسمى بـ "الردع" و"توازن الرعب" مع "الكيان الاسرائيلي".

وعند البحث عن الرسائل المشفرة ، يمكن التوسع كثيرا في ما هدفت اليه المناورة وما تحمله من الرسائل  الاقليمية  لتصب  في معظمها باتجاه الداخل ولا سيما عند الحديث عن نوعية الاسلحة التي يمتلكها الحزب والتي قدم نماذج منها تحاكي "حرب المسيرات" وما بات متوفرا من أسلحة يمكنها ان تحاكي انواعا من سلاح طيران العدو من دون التوسع في شرح قدراتها وماهية أدوارها لتبقى الغازا قابلة للاستثمار في أكثر من اتجاه.

في خلفية ما جرى ايحاء واضح بفتح النقاش على نوعية واسلحة الجيش اللبناني بعدما توسع بعض رموز الحزب والدائرين في فلكه في الحديث عما يسمى بالقرار الدولي الذي يمنع تسليح الجيش اللبناني ورفض تنمية قدراته التي تؤهله لمواجهة العدو الاسرائيلي بغية احياء الشعور بفقدان القدرات القتالية للجيش ليكون قادرا على المواجهة مع اسرائيل. وهو منطق ساهم في تنميته عدد غير قليل من اهل السلطة في السنوات الاخيرة لتبرير التفاهمات التي عقدها مع الحزب والتي استثمر فيها حتى الثمالة في السلطة ومواقع النفوذ المختلفة قبل ان يستدرج لبنان الى القطيعة شبه الشاملة مع العرب والغرب.

وعليه لا تخفي القراءات العميقة للمناورة ما بوشر باستغلاله في الداخل، فالبلاد تعيش مرحلة خطيرة خلت خلالها سدة الرئاسة من شاغلها وانقسم اللبنانيون حول هوية ومواصفات الرئيس العتيد الى درجة برزت فيها أجواء التحدي التي عزز من خطورتها توجه الثنائي الشيعي الى تسمية الرئيس المؤهل للمهمة من دون الاعتراف بأي راي او منطق آخر   يعترض على طريقته في تقديم مرشحه   الى اللبنانيين والعالم بطريقة انهت ما لدى مرشحه من مواصفات يمكن الافادة منها لو ان ترشيحه تم بطريقة مختلفة في شكلها ومضمونها وتوقيتها مع ما يرافقها من تجييش سياسي واعلامي انعكس على حياة اللبنانيين.

وبدون الغوص في الكثير من التفاصيل مع ما تحمله  "مناورة عرمتى" من رسائل باتجاه الداخل والخارج  فالخوف ازداد في بعض الاوساط السياسية ان يكون ما حصل جهارا وعلى الملأ محطة في مسيرة الحزب المقبلة تشبه الى حد بعيد محطة وضع اليد على "ثكنة الشيخ عبدالله" ايذانا بإنشاء "جيش رديف" يمكنه ان يكون بديلا من المؤسسات الشرعية وخصوصا ان وضع في موازاة ما انشىء من مؤسسات تجارية ومالية وتربوية وصحية واجتماعية وروحية وإعلامية وديبلوماسية عززت حضوره على مختلف المستويات والأدوار التي تقاعست لا بل انتهت الدولة من توفيرها. وهي يمكن ان تحظى باعتراف دولي بعد الاقليمي وخصوصا بعدما جيرت اليه "التفاهمات الأخيرة" بشأن ترسيم الحدود البحرية وما يمكن ان ينشأ من تفاهمات أخرى تستظل ما انتهى اليه "تفاهم بكين" بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الاسلامية في ايران.