المصدر: نداء الوطن
الكاتب: د. جوسلين البستاني
الثلاثاء 8 تموز 2025 07:20:25
في 19 حزيران 2025، تسلّم لبنان، بوساطة أميركية، خارطة طريق لنزع سلاح "حزب اللّه"، مقابل انسحاب إسرائيلي وحوافز اقتصادية. حيال ذلك، لم يُعلن "حزب اللّه" صراحةً عن نيّته التجاوب مع شروط نزع السلاح، لا بل أكّد بعض قادته تمسّكهم به. كما أنّ الإعلان عن "استعداده للمناقشة" جاء في إطار التفاوض الاستراتيجي، لا في سياق الإذعان. أمّا الرئيس برّي، فلم تصدر عنه تصريحات جديدة تناقض آخر تصريح علنيّ له، الذي أدلى به في 25 نيسان الماضي، حين شدّد بحزم على أنّ "حزب اللّه" لن يسلّم سلاحه ما لم تنفّذ إسرائيل التزاماتها بموجب اتفاق وقف إطلاق النار بالكامل.
وقد نفى الرئيس بري مؤخّرًا ما تداولته وسائل الإعلام بشأن تصريحاته حول سلاح "حزب اللّه"، واصفًا إيّاها بـ "الفبركات الإعلامية الكاذبة". بذلك، ومنذ نيسان الماضي حتى اليوم، اقتصر دوره على دبلوماسية الكواليس، من دون الإدلاء بأي تصريحات إعلامية تؤكد موقفه. ولا توجد أيّ تغطية تُشير إلى تأييده تسليم سلاح "حزب اللّه" دون قيد أو شرط.
يبدو أنّ صمت الرئيس بري في ما يتعلّق بقضية سلاح "حزب اللّه" هو صمت استراتيجي بامتياز. إنّه فعل متعمّد يندرج ضمن سياق المُعايرة السياسية، ويُشكّل موقفًا محايدًا موقتًا هدفه الحفاظ على وحدة الصفّ الشيعي في ظلّ عملية دبلوماسية هشّة للغاية. من جهته، ينظر "حزب اللّه" إلى الرئيس بري كأداة سياسية أساسية؛ فصمته الحذر ومناوراته المؤسّساتية يمنحانه هامشًا استراتيجيًا: للمماطلة، أو لإعادة التموضع من دون التراجع العلنيّ.
في الوقت نفسه، ومن شبه المؤكّد أنّ أي محاولة لإضعاف "حزب اللّه" أو نزع سلاحه ستؤدي تلقائيًّا إلى إضعاف الرئيس بري. فمن دون سلاح "حزب اللّه" وعضلاته السياسية، سيواجه ضغوطًا محلية ودولية أكثر جدّية للتنحّي أو للسماح بإجراء إصلاحات حقيقية.
ولأنه سيّد سياسة حافة الهاوية والمماطلة، فقد أدرك الرئيس بري، كما قال يومًا كبير موظفي البيت الأبيض السابق، الديمقراطي رام إيمانويل، أنّ "الأزمة الخطيرة لا تُهدَر هباءً". ومن هنا، طالبت حركة "أمل" التي يرأسها بـ "ضمانات مشدّدة"، وركّزت على ضرورة تطبيق ما لم يُنفّذ من اتفاق الطائف، لا سيّما البنود الإصلاحية، وفي مقدّمها: إنجاز قانون عصري للانتخابات النيابية خارج القيد الطائفي، إنشاء مجلس شيوخ وتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية.
لكن، هل طُبِّقت كلّ الإصلاحات الأخرى المنصوص عليها في الدستور، ولم يتبقَّ سوى بند إلغاء الطائفية السياسية؟ أم أنّ هذه المطالبة تمثّل مغالطة منطقية هدفها الإلهاء، وتوجيه الجدال نحو مسار مختلف لا صلة له بالموضوع الأساسيّ؟
بغضّ النظر عن الأهداف الكامنة وراء ذلك، فإنّ تكتيكات الرئيس بري التقليدية، من الغموض الاستراتيجي، إلى التخريب الإجرائي، وصولًا إلى الاعتدال الخطابي الخالي من المضمون السياسي، لم تعد مجدية في ظلّ تغيّر مشهد السياسة الخارجية. ولم يعد بإمكانه التصرّف كما لو أن قواعد اللعبة القديمة لا تزال سارية، حتى لو أراد ذلك. في الواقع، فإنّ هذه الاستراتيجية التي خدمته لعقود باتت مرفوضة بشكل متزايد، خصوصًا في ظلّ احتمال اندلاع حرب شاملة. فهل سيتمكّن، ولو على مضض، من انتزاع تنازلات من "حزب اللّه" في هذا الشأن؟
لنعد إلى عام 1992، حين عمل الرئيس بري على إعادة تشكيل الساحة السياسية اللبنانية، وقد تضمّنت استراتيجيّته آنذاك تمكين "حزب اللّه" كجزء من خلق توازن سياسي داخلي. لكن ومع مرور الوقت، تمكّن "حزب اللّه"، الذي كان يُنظر إليه في البداية كقوة مضادة مُسيطر عليها، من تحقيق مستوى من الاستقلالية المؤسّسية. فوسّع من قدراته العسكرية ونفوذه السياسي، إلى أن أصبح فعليًّا بمثابة دولة موازية داخل الدولة اللبنانية.
وكما يُجسّد وحش فرانكنشتاين الأخطار غير المتوقّعة للابتكار غير المضبوط، فإنه يُسلّط الضوء أيضًا على معضلة أساسية في السياسة: فكلّما زاد تمكين قوةٍ ما لتحقيق هدف معيّن، ازداد خطر أن تعمل لاحقًا بشكل مستقلّ، وبطرق قد تُقوّض الأهداف ذاتها التي كان من المفترض أن تخدمها.
من نواحٍ عديدة، يمكن النظر إلى التحالف السياسي الطويل الأمد بين الرئيس بري و "حزب اللّه" على أنه تجربة فرانكنشتاين؛ أي أنها شراكة محكومة، انطلقت بضوابط محسوبة، لكنها انحرفت في نهاية المطاف عن مسارها، لتتحوّل إلى تهديد يتجاوز من أطلقها الذي لم يعد بمقدوره كبح جماحها، حتى لو أراد ذلك.
والآن، تطالب خارطة الطريق الأميركية الدولة اللبنانية التي كان الرئيس بري أحد أهمّ أركانها بتفكيك ما سمحت له بالنموّ سابقًا. لكن، وكما هو الحال مع وحش فرانكنشتاين، لا يمكن ببساطة تفكيك "حزب اللّه" من دون عواقب.
وكما كشفت الغطرسة العلمية في رواية ماري شيلي، فإن قرار تمكين "حزب اللّه" أهمل احتمال أن تخرج هذه القوة عن السيطرة. ومحاولة التراجع بالإكراه، قد لا تؤدي إلّا إلى إعادة إنتاج مأساة الرواية: مواجهة بين الخالق والمخلوق، تنتهي بانهيار الاثنين معًا.
وفي ضوء ذلك، لا يكمن التحدّي فقط في نزع السلاح، وهي فكرة مرعبة لأولئك الذين بنوا هويتهم حول أوهام معيّنة، بل في المهمة الأعمق: استعادة سيادة الدولة من دون التسبّب في انهيارها.