أرقام الدَين العام اللبناني: قبل وبعد ألاعيب رياض سلامة

نشرت وزارة الماليّة مؤخّرًا أرقام الدين العام اللبناني، التي تعكس وضعيّة هذا الدين لغاية نهاية العام الماضي. في الشكل، تشير الأرقام إلى أنّ حجم هذا الدين تخطّى اليوم حدود 101.82 مليار دولار، ما يوازي أكثر من خمسة أضعاف حجم الناتج المحلّي الإجمالي للبنان، وبزيادة تقارب 11% مقارنة بحجم الدين في نهاية العام 2019، أي في بداية الأزمة. الرقم الضخم بحد ذاته، كفيل بإثارة القلق، إذ أنّه يتخطّى بأشواط أعلى نسبة دين للناتج المحلّي في العالم، التي سجّلتها اليابان هذه السنة عند مستوى 237%.

إلا أنّ عرض الأرقام على هذا النحو المبسّط، ينطوي على كثير من التضليل للقارئ. فهذا الرقم–كما تحتسبه وزارة الماليّة- يقدّر الدين العام بالليرة وفقًا لسعر الصرف الرسمي القديم، ما يضخّم حجمه بشكل غير واقعي على الإطلاق. كما يقدّر حجم الدين بالعملات الأجنبيّة، أي سندات اليوروبوند، بحسب القيمة الإسميّة للسندات، أي وفقًا لقيمتها عند الإصدار، من دون الأخذ بالاعتبار حجم الاقتطاع من قيمتها الذي سيتم فرضه عند إعادة هيكلة الدين، بعد التفاوض مع الدائنين.

أرقام الدين العام: مقارنة بين عامي 2019 و2022

لفهم الحجم الفعلي للدين العام اليوم، وكيفيّة تطوّره منذ بداية الأزمة، من المفترض التمييز بين سندات الدين بالعملات الأجنبيّة، أي سندات اليوروبوند، وسندات الدين بالليرة اللبنانيّة. مع الإشارة إلى أنّ القراءة المتأنية تكشف بعض الأكلاف الإضافيّة التي تحمّلها لبنان نتيجة التأخّر في التفاوض لإعادة هيكلة الدين بالعملات الأجنبيّة (اليوروبوند) بالتحديد.

في الربع الأخير من العام 2019، بلغت قيمة سندات اليوروبوند المترتبة على الدولة اللبنانيّة حدود 33.75 مليار دولار أميركي، فيما بلغت قيمة الديون بالليرة اللبنانيّة نحو 57.9 مليار دولار، ما جعل قيمة الدين العام الإجمالي في ذلك الوقت نحو 91.65 مليار دولار أميركي. وهذا الدين، كان يوازي في تلك المرحلة أكثر من 176% من حجم الناتج المحلّي الإجمالي، ما جعل فوائده عبئًا على الموازنات العامّة السنويّة.

في أواخر العام 2022، تضخّمت قيمة سندات اليوروبوند المترتّبة على الدولة اللبنانيّة بالعملة الصعبة، لتقارب حدود 41.34 مليار دولار، أي بزيادة نسبتها 23% مقارنة بقيمة هذه السندات في أواخر العام 2019.

أمّا السبب الأساسي لتضخّم قيمة هذه السندات بهذا الشكل، فهو تراكم مستحقات الفوائد على مدى السنوات الثلاث الماضية، نتيجة تأخّر الدولة اللبنانيّة في التفاوض مع الدائنين لإعادة هيكلة هذه السندات. مع الإشارة إلى أنّ الدولة اللبنانيّة امتنعت منذ آذار 2020 عن سداد هذه السندات، من دون أن تسعى حتّى لوضع استراتيجيّة لإعادة هيكلة هذه الديون، رغم أنّ وضع هذه الاستراتيجيّة مثّل أحد شروط التفاهم المعقود على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي خلال العام الماضي.

بالنسبة إلى الدين العام المقوّم بالليرة اللبنانيّة، تشير أرقام وزارة الماليّة إلى ارتفاعه في أواخر العام 2022 إلى حدود 60.48 مليار دولار، لكن بعد احتسابه وفقًا لسعر الصرف الرسمي القديم. أمّا احتسابه وفقًا لسعر صرف الليرة الفعلي في السوق اليوم، فيقلّص قيمته الحقيقيّة إلى أقل من 935 مليون دولار فقط لا غير.

باختصار، القيمة الفعليّة والإجماليّة للدين في أواخر العام 2022، وبما يشمل سندات اليوروبوند بالدولار وسندات الدين بالليرة معًا، لا تتخطّى 42.27 مليار دولار. هذا طبعًا بعد إعادة احتساب الدين العام بالليرة وفقًا لسعر الصرف الرائج، لا سعر الصرف الرسمي كما تفعل وزارة الماليّة في تقاريرها. وهذا الرقم، يوازي ضعف حجم الناتج المحلّي الإجمالي، ما يمثّل طبعًا مستوى ضخماً نسبةً لدين سيادي، إلا أنّه يبقى أقل بأشواط من الأرقام التي تعرضها وزارة الماليّة اليوم.

في كل الحالات، وكما أشرنا سابقًا، من الطبيعي أن تتم إعادة هيكلة الدين العام بالعملة الأجنبيّة، مع إجراء حسومات من قيمة السندات بعد التفاوض مع الدائنين. وفي حال تم فرض اقتطاع بنسبة 75% من قيمة سندات اليوروبوند، سيكون بالإمكان خفض قيمة الدين العام الإجمالي إلى حدود 11.27 مليار دولار، أي نحو 56% من حجم الناتج المحلّي الإجمالي اليوم.

وبذلك، سيكون لبنان قد امتثل لمعايير صندوق النقد الدولي، الذي طالب خلال المفاوضات مع لبنان بإعادة هيكلة الديون لخفض نسبتها إلى أقل من 100% من حجم الناتج المحلّي الإجمالي.

الدين العام بعد ألاعيب رياض سلامة

كل هذا المشهد، لا يأخذ بالاعتبار جانباً آخر من مسألة الدين العام، والمرتبط تحديدًا بالألاعيب التي قام بها حاكم مصرف لبنان، التي أضافت ما يقارب 16.5 مليار دولار كدين على الدولة اللبنانيّة، لمصلحة مصرف لبنان. ومن المعلوم أن هذه الخطوة جرت عبر احتساب كل عمليّات القطع التي حصلت لصالح الحكومة، أي عمليّات بيع الدولارات مقابل ليرات لبنانيّة، كديون على الدولة، وبمفعول رجعي يعود إلى العام 2007. وهنا، تجاهل الحاكم حقيقة أنّ الدولة قامت بعمليّات معاكسة رسملت من خلالها المصرف المركزي بالدولارات، عبر تزويد المركزي بسندات اليوروبوند التي كان يقوم ببيعها في السوق، للحصول على العملة الصعبة، فيما كان مصرف لبنان يسدد ثمن السندات للحكومة بالليرة.

في كل الحالات، وفي حال نجح حاكم مصرف لبنان بفرض هذا الدين على الحكومة، فسيزيد حجم الدين العام بنسبة 146%، مقارنة بحجم الدين الأساسي بعد إعادة هيكلته. وبذلك، سترتفع نسبة الدين إلى الناتج المحلّي من مستوى معقول هو 56%، إلى مستوى مرتفع وغير مستدام وهو 139%. وبهذا الشكل، سيعود لبنان إلى مستويات الدين التي تخنق الميزانيّة العامّة، وتمنع إعادة الانتظام إليها.

أمّا المستفيد الوحيد في هذه الحالة، فهو المصارف التي تحاول زيادة نسبة الخسائر التي ستتحمّلها الميزانيّة العامّة، مقابل تقليص حجم الخسائر التي سيتم تحميلها إلى رساميلها خلال مرحلة إعادة هيكلة القطاع المصرفي. وهذا تحديدًا ما قام به مصرف لبنان عند تخفيض حجم الخسائر المتراكمة في ميزانيّته، والتي كان يفترض أن تتحمّلها المصارف، مقابل زيادة قيمة موازية من الديون التي ستترتّب على الدولة اللبنانيّة بالدولار الأميركي.

أخطر ما في الموضوع حتّى اللحظة، هو أنّ وزير الماليّة لم يقدّم أي إجابة بخصوص مسألة هذا الدين، حتّى بعد أن تم توجيه سؤالين له بهذا الشأن من جانب عدد من النوّاب. وهذا تحديدًا ما يطرح أسئلة جديّة حول مقاربة وزارة الماليّة لموضوع هذا الدين المستجد، الذي أضافه حاكم المصرف المركزي بشخطة قلم.

فهل سيكون دين 16.5 مليار دولار هو بوّابة تحميل الدولة ودافعي الضرائب نصيبهم من الخسائر المصرفيّة، كما تطالب جمعيّة المصارف؟ وهل وجد سلامة أنّ حجم الدين العام انخفض بشدّة، بفعل انخفاض قيمة الدين بالليرة، وإقبال الدولة على إعادة هيكلة سندات اليوروبوند وتخفيض قيمتها، فارتأى تحميل الدولة أعباء رسملة القطاع المصرفي بهذا الشكل؟ وهل سيكون على اللبنانيين تحمّل عبء تمويل "مصارف الزومبي" من خلال هذا الدين، بعدما تحمّلوا عبء انهيارها على مدى السنوات الثلاث الماضية، وبعدما تحمّلوا عبء رفدها بالأرباح الخياليّة قبل العام 2019؟