نصرالله بعيون أولاده... لماذا لم يقاتلوا؟

قليلة هي المرّات التي تحدّث فيها السيّد حسن نصرالله عن عائلته وحياته الشخصية. وقليلة كانت المرّات التي كان أولاده يُطِلّون فيها على الناس في مقابلات. كانت حياتهم محكومة بالتدابير الأمنية التي تطبق على أمين عام "حزب الله" وتشملهم في تنقلاتهم وعلاقاتهم وحياتهم الخاصة. ولكن بعد اغتياله في 27 أيلول 2024 كثرت إطلالاتهم بعدما كثرت عليهم الطلبات للحديث عن والدهم وعلاقاتهم معه، جواد ومهدي وزينب. اللافت أن الرابع، علي، لا أثر له. والافت أيضًا أن لا ذكر لمسألة مشاركتهم في القتال في الحرب. كان هادي الإبن الأكبر قد استشهد في 12 ايلول 1997 خلال مشاركته في مهمة قتالية، بعده لم يظهر أن إخوته انخرطوا في العمل العسكري والجهادي.

يحكي جواد ومهدي وزينب عن والدهم بكثير من الرهبة والتقدير. ليس من قبيل الصدفة أن يشيروا إليه باسم "سماحة السيّد". ذلك أنه صار بالنسبة إليهم يمثل ما يمثله للبيئة الحاضنة. قليلًا ما يتحدّثون عنه بصفة الوالد أو الـ "بَيّ". ويتفقون أيضًا في أنهم لم يلتقوا به إلّا قليلًا بعد بدء حرب طوفان الأقصى وإعلانه حرب المساندة، وفي أنهم كانوا يجتمعون في مناسبات قليلة قبل الحرب خصوصًا في شهر رمضان وليالي القدر، وفي أنه كان يعدل بينهم في اللقاءات ويخصّ كل عائلة منهم بلقاء خاص غير اللقاء الموسع الذي كان يجمع فيها العائلة كلّها، وكان يحرص على مساعدتهم في حلّ مشاكلهم من دون أن يتدخل في شؤونهم الخاصة مع حرصه على التقرّب من الأحفاد. ويتفقون أيضًا على أنّ والدتهم كانت تشكّل قناة التواصل مع والدهم وتنقل إليه طلباتهم وتطمئنهم إلى صحته عندما كانوا يشاهدونه أحيانًا في إطلالات عبر التلفزيون يعاني من مشاكل صحية، خصوصًا الصعوبة في التنفس. ويتفقون أيضًا على أنّ والدتهم هي التي كانت تهتمّ بشؤونهم اليومية وفي متابعة دراساتهم. ويظهر من خلال أحاديثهم أنها كانت هي التي تبقى على تواصل معه. حتى أن جواد تحدّث عن اللقاء الأخير بين والده ووالدته قبل اغتياله، عندما ودّعها وكأنه كان مدركًا أنه لن يلتقي بها وبأولاده مرّة أخرى.

من هيداك الحيّ

نصرالله كان تحدّث مرة عن طفولته في حي شرشبوك في منطقة الكرنتينا، في بيروت الشرقية، المتعدد الطوائف والجنسيات، وعن دكان والده وعن تواضع حياتهم العائلية. وتحدّث  عن توجهه لتلقي العلوم الدينية في النجف وعن لقائه مع استاذه السيد عبّاس الموسوي وعودتهما معًا إلى بعلبك وتأسيس حوزة دينية. هناك تعرّف نصرالله إلى زوجته وتزوّجها وهو بعمر 18 عامًا. والده عبد الكريم تحدّث بعد اغتياله، كيف أنه أبلغه أنه يريد أن يتزوّج، وكيف ذهبوا مع السيد محمد حسين فضل الله لكتب الكتاب وكيف أن فضل الله طمأنه إلى قدرة ابنه على تحمل أعباء الزواج وأنه "قدّ حالو"، بعدما فاتحه بأنه يخشى عليه من أن يعجز عن تحمّل هذا العبء.

يشير الأولاد إلى بداية نصرالله في شرشبوك، "هيداك الحي" قالت ابنته زينب. وكيف أنه كانت لديه اتجاهات دينية منذ صغره، وكيف كان يلف منديل جدّته حول رأسه كعمامة ويقف خطيبًا بين أقرانه وأحيانًا كان يخطب في مناسبات دينية. نصرالله كانت صورته لدى الناس تنحصر بالقوة والجبروت وبأنه قادر على تحريك آلاف المقاتيلن وتهديد إسرائيل، وبأنه حقق توازن الردع معها، وكان يكفي أن يرفع إصبعه ويهدّد حتى يلبّي آلاف المقاتلين في "حزب الله" أوامره، وأنه بعد مقتل ابنه هادي وحجز إسرائيل جثمانه نعاه ولم يظهر أنه ذرف دمعة عليه، هو نفسه قال في إطلالات أخرى أنه كسائر الآباء عندما عاد إلى وحدته بكى ابنه. جواد ومهدي وزينب يتحدّثون في إطلالاتهم كيف أن "استشهاد هادي" عزّز حضور والدهم في بيئتهم لأنّه صار يستطيع أن يقول لأهالي الآخرين الذين يُقتلون في الحروب إنه صار مثلهم ويشعر بما يشعرون به.

ولادة محمد مهدي 

ليل 25 حزيران 1998، هبطت في مطار بيروت طائرة فرنسية تحمل على متنها نعوش 28 عنصرًا من "حزب الله" من بينهم هادي نجل نصرالله، من بين أربعين عنصرًا بعضهم ينتمي إلى "حركة أمل" و"الحزب الشيوعي"، وذلك من ضمن عملية تبادل شملت عددًا من الأسرى، مقابل تسليم "حزب الله" رفات الرقيب الإسرائيلي "إيتامار إيليا" التي احتفظ بها "الحزب" بعد كمين عملية أنصارية في 5 أيلول 1997. كان هادي قد تزوج قبل خمسة أشهر وقد أشار نصرالله إلى أنه لم يكن له دور في حثه على الانضمام إلى صفوف المقاتلين، ولم يتدخل في مسألة الموقع الذي يجب أن يشغله. بعد عامين ولد الإبن الثالث لنصرالله محمد مهدي.

يقول مهدي إنه لم يعرف شقيقه هادي ولم يعرف معنى الشهادة بعد ولادته، ولكنه عرفها بعد اغتيال والده. وقد سارع إلى إصدار كتاب عنوانه "ذكرياتي مع أبي" روى فيه بعض أمثلة على علاقته معه. عاش مهدي مع والده ووالدته لأن إخوته كانوا تزوّجوا. ويروي في إطلالاته كيف أن والدته كانت تهتمّ به أكثر من والده الغائب أكثر الأوقات عن "البيت". ويروي كيف أن والده سأله إذا كان يريد أن يتابع علومه الدينية في الحوزة، وكيف اختار أن يدرس الإعلام في الجامعة ويتخصّص "راديو وتلفزيون" فصار مُلِمًّا بالإخراج والتصوير والمونتاج، وكيف أنه اختار لاحقًا وهو في الجامعة أن يتعمّم، وكيف أنه تزوّج بعمر 17 عامًا بعد سؤال والده. مهدي نفى أن يكون هدفه وراثة والده في موقعه في "حزب الله" بعدما ألبسه المرشد الإيراني العمامة في 17 كانون الأول 2024 وإن كان يتحدّث عن الشبه بينه وبين والده. في كل إطلالاته لا يظهر أنه انخرط في عمل عسكري أو جهادي، أو أنه كان منتظمًا حتى في بنية "الحزب" العسكرية أو الأمنية أو السياسية.

جواد بين الغياب والحضور

محمد جواد في أحاديثه يذكر أكثر من مرة، كما مهدي، أنهم علموا باغتيال والدهم من الأخبار على التلفزيون ثم جاءه من طلب منه الذهاب إلى المغسل للمشاركة في ترتيبات تأمين المكان الذي سيدفنونه فيه قبل أن يتقرّر وضعه في برّاد لأيام ثم مواراته الثرى كوديعة ريثما يحين الوقت لتشييعه بعد توقف القتال.

جواد كان الأكثر حضورًا في تغريدات أثارت أحيانًا كثيرة ردود فعل سلبية تجاهه كابن أمين عام "حزب الله". ولكن في كل إطلالاته أيضًا لم يظهر أنه كان له دور في القتال، لا قبل عملية طوفان الأقصى وحرب الإسناد ولا خلالها ولا بعدها. هو مع العائلة كان في مكان أمين بين النازحين عندما اغتيل والده. حتى أنهم، كما قال، ما كانوا قادرين على التعبير عن فاجعتهم وعلى البكاء أو الصراخ.

الإبنة بين الأب والزوج

عندما سئلت زينب عن شعورها بعد فقد والدها قالت إنها كانت تتمنّى له أن يعيش حياة أطول ولكن أن يموت شهيدًا في النهاية، لأنه كان يطلب هذه الشهادة. وتضيف أنها كانت تطلب ذلك من الله. زينب تحدّثت عن اغتيال زوجها حسن جعفر قصير في 2 تشرين الأول 2024 بعد خمسة أيام على اغتيال والدها. قالت أيضًا إنه كان يطلب منها أن تطلب له الشهادة عندما كانت تزور الأماكن الشيعية المقدّسة، وإنها كانت تتمنى له حياة أطول على أن يختمها بالشهادة. ولكن يظهر تركيزها الأكبر على أنها ابنة حسن نصرالله أكثر ممّا هي زوجة حسن قصير الذي التقى والدها بعد مشاركته في عملية اقتحام موقع إسرائيلي في بيت ياحون عام 1999، عندما قدّم قطعة سلاح غنمها في العملية لنصرالله الذي قلّده وسامًا. خطبا عام 2000 وتزوّجا.

اغتالت إسرائيل حسن قصير في حي المزّة في دمشق بعد قصف مبنى كان يستخدمه "حزب الله" و"الحرس الثوري الإيراني". قبل يوم واحد، في أول تشرين الأول 2024، تمكّنت من اغتيال شقيقه محمد جعفر قصير في شقة سكنية في منطقة الجناح، وهو مسؤول عن نقل السلاح إلى "الحزب" وعن الوحدة 4400 وموضوع على لائحة العقوبات الأميركية. حاولت إسرائيل اغتياله في دمشق في 12 شباط 2024 ولكن العملية فشلت بعد تمكنه من الخروج من الشقة المستهدفة بعد إطلاق الصاروخ الأول عليها.

بين عائلتَي قصير ونصرالله

حسن جعفر قصير، آخر الأشقاء من عائلة جعفر قصير الذي قتل أبناؤه الخمسة في المواجهات مع إسرائيل، وكان أولهم أحمد قصير الذي نفذ أوّل عملية انتحارية وفجّر مبنى الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور في 11 تشرين الثاني 1982. وفي عام 1996، قضى موسى جعفر قصير، أكبر أبناء جعفر، في خلال تنفيذه عملية في منطقة الجبل الرفيع، وفي حرب تموز 2006، قُتل الأخ الثالث ربيع.

بهذا المصير تختلف عائلة جعفر قصير عن عائلة السيّد حسن. وهي تمثل واحدة من عائلات شيعية كثيرة فقدت عددًا من أولادها واعتبرت الأمر مدعاة فخر وإرضاء للأئمة الشيعة والمهدي المنتظر والإمام الحسين.

أين الإبن الرابع؟

ولكن ما يجدر التوقف عنده في هذا المجال غياب الإبن الرابع لنصرالله، محمد علي، عن أي ظهور إعلامي. فهو لم يُعرف عنه أنه حكى في أي وسلية إعلامية لا قبل اغتيال والده ولا بعده. حتى أنه لا وجود له على منصات التواصل الاجتماعي. أكثر من ذلك كل إخوته في إطلالاتهم لم يأتوا على ذكره.

بعد مقتل ابنه هادي قال نصرالله "إنني أشكر الله سبحانه وتعالى على عظيم نعمه، أن تطلّع ونظر نظرة كريمة إلى عائلتي فاختار منها شهيدًا... نحن لا نوفر أولادنا للمستقبل... نفخر بأولادنا عندما يذهبون إلى الخطوط الأمامية... ونرفع رؤوسنا عاليًا بأولادنا عندما يسقطون شهداء...". ولكن يبدو أن تلك القاعدة لم تكن شاملة. جواد وعلي ومهدي لم يظهر أنهم ساروا على هذا الدرب.