المصدر: المدن
الكاتب: بتول يزبك
الخميس 10 تموز 2025 00:19:45
منذ لحظة إعلان وزيرة الشؤون الاجتماعيّة اللبنانيّة حنين السيّد، في تصريحٍ لها لوكالة "رويترز" اليوم، منح "مئة دولار لكلّ سوريّ عائد من لبنان إلى سوريا، وأربعمئة دولار لكلّ أسرة عند وصولها"، بدا أنّ مسارًا جديدًا — موثَّقًا هذه المرّة بالأرقام والضمانات — قد وُضِع على الطاولة أمام الرأي العامّ اللبنانيّ والسوريّ والدوليّ معًا. السيّد، التي وصفت العرض بأنّه "بداية جيّدة ومهمّة"، أوضحت أنّ الخطة الحكوميّة ستتحمّل تكاليف النقل كاملة، وأنّ سلطات الحدود قرّرت إعفاء العائدين من الرسوم، مؤكّدةً أنّه جرى التنسيق مسبقًا مع "نظرائنا السوريّين" بما يضمن تسهيل الإجراءات. في الأسبوع الأوّل وحده سجّل أحد عشر ألف شخصٍ أسماءهم للعودة، فيما تسعى الحكومة إلى أن يتراوح عدد العائدين بين مئتي ألف وأربعمئة ألف قبل نهاية السنة، مع التركيز على المخيّمات غير الرسميّة حيث يعيش قرابة مئتي ألف لاجئ. وبهدف تخفيف التوتّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، لوَّحت الحكومة بإمكان منح مَن يبقى في لبنان من أرباب الأسر تصاريحَ عملٍ محدودةً في الزراعة أو البناء كي يواصل إعالة عائلته بعد عودتها، في صيغة تُعَدّ الأولى من نوعها منذ تصاعد موجة النزوح عام 2011.
التحوّل في الخطاب الرسميّ والأمميّ
ترافق التحوّل في الخطاب الرسميّ اللبنانيّ مع تحوّلٍ موازٍ في توصيف المفوّضيّة السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين لواقع سوريا بعد الإطاحة بنظام بشّار الأسد في الثامن من كانون الأوّل 2024. فعلى مدى سنواتٍ رأت المفوّضيّة أنّ الوضع الأمنيّ الضبابيّ والملاحقات والتقارير عن التعذيب تحول دون توصيف البلاد "مكانًا آمنًا للعودة الطوعيّة"، لكنّ الحكومة السوريّة الجديدة بادرت، فور تسلّمها السلطة، إلى إطلاق تعهّدٍ علنيّ بأنّ "كلّ السوريّين مُرحَّبٌ بعودتهم من دون استثناء". نتائجُ استطلاعٍ أمميّ أُجري في مطلع عام 2025 أظهرت انقلابًا لافتًا في المزاج: نحو ثلاثين في المئة من اللاجئين في دول الشرق الأوسط عبّروا عن رغبةٍ حقيقيّة في العودة، مقارنةً بنسبة اثنين في المئة إبّان حكم الأسد. ممثّل المفوّضيّة في لبنان إيفو فريسن وصف التطوّرات بأنّها "فرصة إيجابيّة"، لافتًا إلى أنّ "الموقف يتغيّر بسرعة كبيرة، ما يتيح للاجئين التفكير بواقعيّة في خيار العودة المستدامة".
بحلول نهاية حزيران 2025 أحصت المفوّضيّة عودة أكثر من ستمئةٍ وثمانيةٍ وعشرين ألف سوريّ عبر حدود الدول المجاورة، بينهم مئةٌ وواحدٌ وتسعون ألفًا دخلوا من لبنان وحده. هذه الأرقام، وإن بدت طموحةً للبعض ومتواضعةً لآخرين قياسًا بحجم الشتات، أظهرت مسارًا تصاعديًّا غير مسبوقٍ منذ اندلاع الصراع. في الوقت نفسه، ظلّت ظروف اللاجئين داخل لبنان تتفاقم؛ فالحرب التي اندلعت بين إسرائيل وحزب الله أواخر عام 2024 فرضت على البلاد حصارًا عسكريًّا امتدّ أشهرًا وحوّلت بعض مناطق الجنوب إلى خطوطِ نار، فيما عجز الاقتصاد — المنهك أساسًا منذ 2019 — عن امتصاص الصدمات المتتالية الناتجة من شحّ الدولار وتدهور الليرة وارتفاع البطالة. أمام هذا المشهد بدا عرضُ العودة بالحوافز الماليّة أشبهَ بطوق نجاةٍ لشريحةٍ لا يُستهان بها من اللاجئين.
التحدّيات داخل سوريا
غير أنّ الصورة في سوريا ما زالت بعيدةً عن الكمال؛ فالمنازل والبنى التحتيّة في محافظات إدلب وحلب وضواحي دمشق تعرّضت لدمارٍ واسع، وشبكات الكهرباء والمياه تكاد تكون معدومةً في مناطق كثيرة، بينما يشير آخر تحديثٍ أمميّ إلى وجود أكثر من سبعة ملايين نازحٍ داخليّ. ويقول فريسن إنّ "العديد من اللاجئين يُعبّرون عن رغبةٍ في العودة لكنّهم متردّدون بسبب ضبابيّة الأفق الأمنيّ والاقتصاديّ". هؤلاء يخشون الثأر أو التشرّد، ويفتقرون إلى الموارد اللازمة لإعادة بناء منازلهم أو إطلاق مشاريع صغيرة تضمن كسب الرزق.
مبادرات وخطط رسميّة
على الضفّة السوريّة بادرت الحكومة الجديدة إلى إعلان سلسلة حوافز وإعفاءات وصفت بأنّها "الأكثر شمولًا منذ عام 2011". مدير العلاقات المحليّة والدوليّة في هيئة الموانئ مازن علوش أفصح عن بنودٍ تُطبَّق حتى الخامس عشر من تمّوز 2025، تسمح لكلّ مَن دخل لبنان بطريقة غير قانونيّة بمغادرته من دون تسديد غرامات أو التعرّض لحظرٍ لاحق، فيما يُعفى مَن انتهت صلاحية إقامته بعد الأول من كانون الأوّل 2024 من الرسوم أيضًا، بينما يُكتفى بتسديد المتأخّرات لمن انتهت إقامته قبل ذلك التاريخ. بالتوازي صدر "قانون استرداد الأملاك" الذي يمنح العائد ستّين يومًا لإثبات الملكيّة واستعادة العقار، وتتعهّد السلطات بحوافزَ ضريبيّةٍ للمشروعات الصغيرة والمتوسّطة، مع إنشاء أربعة مراكز استقبالٍ مجهّزةٍ بعياداتٍ ومولّداتٍ بتمويلٍ مشتركٍ مع الوكالة الألمانيّة للتعاون الدوليّ. رغم ذلك كشف مسحٌ أجرته جمعيّة "سوا للتنمية" في خمسة مخيّماتٍ لبنانيّة أنّ اثنين وأربعين في المئة من المستطلَعين لا يملكون مأوى صالحًا في قراهم، وسبعةً وثلاثين في المئة يخشون التجنيد أو الثأر الأهليّ، ما يضع الكرة في ملعب الجهات المانحة لتأمين مساكن جاهزةٍ وحماية قانونيّة.
داخل بيروت أفضت المداولات الحكوميّة — وهي المرّة الأولى التي تُعقَد فيها من دون مقارباتٍ عنصريّةٍ شعبويّة — إلى خطّةٍ ذات مرحلتين: تمهيديّة بالتعاون مع الأمن العامّ والمفوّضيّة لتحديث قاعدة بيانات اللاجئين وعرض الحوافز، ثمّ تنفيذيّة توكَل إلى وزارة الشؤون الاجتماعيّة مهمّة وضع "إجراءات ملموسة" تربط بين التمويل الدوليّ ومواكبة العودة اللوجستيّة. وبخلاف مبادراتٍ سابقة اكتفت بالشعارات أو رمت المسؤوليّة على المجتمع الدوليّ، يُعَدّ هذا الطرح اختبارًا فعليًّا لقدرة الدولة اللبنانيّة على الالتزام بمعايير القانون الدوليّ لحقوق الإنسان، ولا سيّما مبدأ "عدم الإعادة القسريّة". فالمغادرة تبقى "طوعيّةً حصرًا" وفق النصّ الرسميّ، شرط أن يوقّع اللاجئ استمارةً تؤكّد خانة "القرار الشخصيّ".
من زاويةٍ أوسع يتقاطع المسار اللبنانيّ مع خططٍ تركيّةٍ وأردنيّة؛ إذ تستهدف أنقرة إعادة سبعمئة ألف لاجئٍ حتى نهاية 2026، فيما تتحضّر عمّان لتسهيل مغادرة مئتي ألفٍ من أصل مليونٍ وثلاثمئة ألف. هذا التزامن، وإن اختلفت شروطه وحدّته، يوحي بإمكان بلورة تفاهمٍ إقليميّ برعاية المفوّضيّة يوزّع الأعباء اللوجستيّة ويُنسّق مع العواصم المانحة. في بيروت دعا المفوّض السامي فيليبو غراندي، قبل أسابيع، المجتمع الدوليّ إلى "استثمارٍ جدّيّ" في إعادة الإعمار، قائلًا إنّ سوريا "بلدٌ مُنهَك يحتاج إلى ترميم بناه التحتيّة وخدماته وأمنه واقتصاده". وأشاد بقرار واشنطن رفع جزءٍ من العقوبات الاقتصاديّة باعتباره "خطوة في الاتجاه الصحيح"، محذّرًا من فشلٍ جماعيٍّ إذا تُرِكت دمشق وحيدةً أمام عبء الإعمار.
مسار العودة
يبقى نجاح أيّ مسارٍ لعودة السوريّين مرهونًا بعدّة عوامل مترابطة؛ فبالإضافة إلى حوافز النقد المباشرة والإعفاءات، لا بدّ من ضمانات أمنيّةٍ شاملةٍ تُشعر العائدين بالحماية من الاعتقال التعسّفيّ أو الملاحقات الكيديّة، مع توفير خدمات أساسيّة كالمياه والكهرباء والتعليم. كذلك يتطلّب الأمر شبكةَ مراقبةٍ مشتركةً بين بيروت ودمشق والمفوّضيّة ترصد أيّ خرقٍ محتمل وتفعّل آليّات المساءلة السريعة. من دون ذلك سيظلّ القلق مُبرَّرًا، ويُخشى أن يتحوّل العائدون إلى نازحين داخليّين يضاعفون الضغط على البنى الضعيفة في محافظاتٍ ما زالت تجرّ ذيول الحرب والعقوبات.
ورغم ضخامة التحدّيات، فإنّ السّياق الإقليميّ الراهن، قد يفسح مجالًا لالتقاط اللحظة. بالنسبة إلى بيروت، التي رُهنت استحقاقاتها الماليّة والتنموّية بعبء اللجوء طيلة اثني عشر عامًا، يُمثّل تحريك ملفّ العودة فرصةً لإعادة ترتيب أولويّاتها الداخليّة وفكّ اشتباكٍ مزمنٍ بين القضايا الاجتماعيّة والهواجس السياديّة. أمّا لدمشق، فيُمثّل نجاح عودةٍ منظَّمةٍ ومدعومةٍ إنسانيًّا رصيدًا سياسيًّا يُعيد دمجها تدريجيًّا في النظام الدوليّ، شرط أن تُترجَم الوعود على الأرض عبر مؤسّسات دولةٍ شفّافةٍ تُحارب الفساد وتحمي حقوق الملكيّة الفرديّة والجماعيّة.
في الخلاصة تبدو المعادلة واضحة: "إذا التقت الإرادة السياسيّة الصادقة بالتمويل الرشيد والرقابة الصارمة، يمكن تحويل مأساة اللجوء إلى رافعةٍ لبناء مستقبلٍ أكثر عدالةً وأمانًا على ضفّتَي الحدود". الخطّة اللبنانيّة، بمنحها النقد المباشر والإعفاء من الرسوم، والخطّة السوريّة بمسارها القانونيّ حتى منتصف تمّوز، ليستا سوى حجرِ الزاوية. أمّا البنيان، فلن يكتمل إلّا إذا استُثمرت اللحظة الإقليميّة بعقلانيّة، فتقاطعت مصالح الدول مع كرامة البشر، وتسارعت قوافل العودة من دون أن تتعثّر في ممرّات الحرب أو دهاليز البيروقراطيّة. بهذه الشروط وحدها يمكن قياس هذا المسار — لا بعدد الحافلات التي تعبر الحدود فحسب — بل بقدرة العائدين على فتح أبواب بيوتهم المغلقة منذ أعوام.