المصدر: جريدة الحرة
الكاتب: الياس كسّاب
الجمعة 9 أيار 2025 09:55:32
صحيحٌ أنَّ الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان انفجرت في أواخر عام 2019، وهي واحدة من أسوأ الأزمات في تاريخ الجمهورية اللبنانية الحديث، وحيثُ صنّفها البنك الدولي ضمنَ أشدّ ثلاث أزمات عالمية منذ أواسط القرن التاسع عشر، ولم تقتصر على الجانب المالي فحسب، بل امتدت لتشمل القطاعات الاجتماعية، والسياسيّة، والخدماتيّة، والتربويّة، والصحيّة… مما أدّى إلى انهيارٍ شبه كامل في الثقة بالنظام الاقتصادي اللبناني، معطوفٍ على دولةٍ منزوعةِ السيادة، تنازلت “بإرادتها” في غالب الأحيان، أو “رغماً عنها”، في بعض الأحيان، عن قرار الحرب والسلم، مشرّعةً الحدود للتهريب سلاحاً ومخدرات، وللجريمة المُنَظمة، مما أفضى إلى حربي سنة 2006، و 2024 التي انتهت إلى ما انتهت إليه من تدمير وخراب.
ولكن، لمن يريد من السياسيين أن يربط بين ثورة اللبنانيين سنة 2019 وانفجار الأزمة الماليّة، في محاولة للهروب إلى الأمام، نقول: إنَّ جذور الأزمة تعود إلى تراكمات عقود من السياسات الاقتصادية غير المستدامة، والفساد الإداري والمالي المحمي من المنظومة التي توزعت المغانم والسلطة بعد اتفاق الطائف، وغطّت “دويلة” حزب الله على حساب الدولة، والقائمة على الاقتصاد الموازي البديل المبنيِّ على التهريب وتبييض الأموال، لقاء السكوت عن الفساد المالي المستشري، وتوزيع “الهندسات المالية” التي كان ظاهرها من قِبل مصرف لبنان استقرار سعر صرف الليرة، وباطنها استعمال الاعتماد المفرط على جذب الودائع الخارجية، والاغترابية، لتمويل عجز الخزينة من جهة، وتقاسم “جبنة” الهندسات للإثراء غير المشروع.
نتائج الأزمة
لاستشراف الحلول، لا بدذ من الوقوف على نتائج الأزمة التي نعددها سريعاً بما يلي:
بين خطاب القسم والبيان الوزاري: استعادة الدولة لقراري الحرب والسلم هو أساس النهوض
إنّنا إذ نراقب، وبإيجابية، تطورَ الأوضاع السياسية في لبنان منذ انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية، وتشكيل حكومة نوّاف سلام الإصلاحية، وعلى وقع خطاب القسم، والبيان الوزاري، وعلى وقع هزيمة الممانعين العسكرية، وانهيار محور طهران، واتفاق وقف إطلاق النار المرتكز على تطبيق القرارات الدولية كافةً، بدءاً باتفاقيّة الهدنة، وانتهاءً بالقرار 1701، وقرار سحب السلاح جنوب وشمال الليطاني من كل التنظيمات اللبنانية والفلسطينية، وعلى رأسها حزب الله وحماس، وإذ نؤيّد القرار الذي يلتزم به العهد وحكومته بحصر السلاح بيد الدولة، كلُّ ذلك يعطي الأمل، إذا ما تحقّق، بإعادة الاستقرار، لأنْ لا إصلاح بدون استقرار، ولا نهضة مالية واقتصادية بدون إصلاح. فالاستقرار والإصلاح متلازمان، وعمادهما بسط سلطة الدولة على كامل التراب اللبناني، والذي، وحده يعيد الثقة للمستثمر اللبناني، المقيم والمغترب، ولرؤوس الأموال العربية والعالمية التي يؤمل عودتها.
فعبثاً يحاول “الممانعون” إعادة استنساخ “الهوبرة”، والمتاجرة بالقضيّة الفلسطينيّة، على غرار ما حصل في 2006. فالمال العربي اليوم أذكى من أن يهرع عاطفيّاً لتمويل إعادة الإعمار الذي تسبّبَ به السلاح الذي استعملته طهران للسيطرة على عواصم عربيّة من صنعاء إلى بغداد، ومن دمشق إلى بيروت، والمؤتمرات “الباريسيّة” لرفد المنظومة الفاسدة المتحالفة مع دويلة حزب الله المتهالكة لم تعد ممكنة دون الرقابة والمحاسبة الدوليّة، فالعنوان العريض: سيادة، فإصلاح، فمساعدات وتمويل.
المنتشرون واستعادة الثقة
المستثمر المغترب اليوم في العالم الرقمي الجديد، وفي عولمة تتخطى الحدود الجغرافية، ومع تقنيّاتٍ تسابق الزمن، هو غيره في سنوات القرن العشرين، قبل الحرب الأهلية، وبعدها.
المستثمر المغترب القديم هو مستثمرٌ عاطفي، جمع النوستالجيا والاستثمار معاً، هو الذي بنى بيروت الكبرى قبل الحرب الأهلية، وعاد للبناء مجدداً بعدها، لترميم علاقته الحميمة بذاكرته الوطنيّة التي كان مستعداً دائماً أن يستثمر فيها لجنى العمر.
المستثمر المغترب الجديد هو مستثمرٌ ذكي، يهرب من عدم الاستقرار، ومن الحروب، ولقد انفتحت أمامه أسواق العالم، وهو، بالرغم من تعلقه بوطنه الأم، لن يتهاون مع أحد بعد سرقة جنى عمره، أو عمر ذويه، في المصارف اللبنانية.
نقول ذلك بواقعيّة حتى لا يظنّ أولي الأمر في لبنان أنَّ المغتربين هم جيبُ لبنان المضمون، فدونهم والوطن الأم ملاحظاتٌ ومطالب، خاصّةً أنهم، وبالرغم من كلِّ شيء، وباعتراف مصرف لبنان، يرسلون “عاطفيّاً” إلى وطنهم الأم، حتى بعد الأزمة، 7 مليارات من الدولارات سنويّاً.
المنتشرون هم العلاج الأساس للأزمة المالية، خاصةً وأنَّ استثماراتهم ليست ديوناً على الخزينة، بل عامل نهضةٍ اقتصاديّة وطنيّة بامتياز.
إنَّ المنتشرين لن يستثمروا في لبنان مجدّداً إلا تحت شروط هي أبعد من الشروط الدولية. وإذا كانت الشروط الدوليّة تُلخَّص بما يلي:
فإنَّ المنتشرين هم عماد الاستثمار الوطني، وهم الحلُّ المُستدام بعيداً عن القروض والديون الدوليّة. فلا نفرحنَّ كثيراً بأموال صندوق النقد والبنك الدولي لأن تاريخ هذه القروض حافلٌ بصفقات مشبوهة أعاثت فساداً في الدول الفقيرة والنامية، عدا عن السيطرة على التوجهات الاقتصادية لهذه الدول. إذا كنا نبحث عن صك اعتراف دولي من صندوق النقد، وهذا مطلوب، فلبنان بحاجة إلى صك اعتراف من بناته وأبنائه أيضاً، خاصةً المنتشرين منهم، ولن يُعطوا هذا الصك قبل استعادة الثقة.
ولاستعادة الثقة مسار، فالمنتشرون اللبنانيون يأملون بعدم استباحة الدستور بعد اليوم، فلا تداخل ومحاصصة بين السلطات على حساب العدل والقانون، ولا انتقاص للسيادة، بل دولة تحتكر السلاح وقرار الحرب والسلم، وتطبق القرارات الدولية، وتحرّر السياسة الخارجيّة نهائيّاً من قبضة القوى الإقليمية، وبشائرُ ذلك بدأت، وهم مصرون على مشاركتهم في صنع القرار انتخاباً، وعلى تعديل قانون الانتخاب بحيثُ ينتخبون نهائيّاً نواب الدوائر الانتخابيّة في لبنان، فلا حاجة لنواب في الاغتراب، على أن تكون الهويّة اللبنانية كافية للاقتراع في الخارج، لأن الصوت الاغترابي حُـرٌّ من الترغيب والترهيب، وهو الأمل بالتغيير، مع الاستمرار في استكمال الإصلاحات.
ولكن يبقى المفتاح الأساس لعودة الاستثمار الاغترابي هو عدم المساس بودائع المنتشرين، وتطبيق قانون رفع السرية المصرفية واستعادة أموال لبنان واللبنانيين المنهوبة عبر رفع طلب رسمي للأمم المتحدة لتطبيق “اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد”، وهي وثيقة قانونيّة دوليّة مُلزِمة، أقرّتها الأمم المتحدة سنة 2003، تضم 187 دولة، وقد وقّع عليها لبنان سنة 2009، لحسن حظنا، والدولة حاولت، حتى الآن، تجاهل التطرق لهذا الموضوع.
المغتربون لم يُقصّروا يوماً تجاه أهلهم ولبنان، لكنهم لن يكونوا استثماراً محسوماً بعد اليوم، بل استثماراً آمناً وذكيّاً، يتعاظمُ بقدر تجاوبِ الدولة إصلاحاً، وتطبيقاً للعدلِ في دولة السيادة والقانون.
تورونتو، بقلم: الياس كسّاب، باحث سياسي واغترابي